توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا مانديلّا لدينا ولا دوكليرك

  مصر اليوم -

لا مانديلّا لدينا ولا دوكليرك

بقلم - حازم صاغية

تتقدّم إسرائيل، من نفسها ومن العالم، في صورتين مختلفتين:

من جهة، هناك دولة احتلال واستيطان، عاصية على القانون الدوليّ، ومتفلّتة من إملاءاته. هذه الصورة تُمارَس يوميّاً وعلى غير صعيد، وتحمل كثيرين ممّن كانوا يتعاطفون معها في العالم على الانفضاض عنها أو تدفعهم إلى مساءلة تعاطفهم.

وهناك، من جهة أخرى، إسرائيل التي يتظاهر مئات الآلاف من سكّانها، ومنذ ثلاثين أسبوعاً من غير توقّف أو تعب، دفاعاً عن صلاحيّات المحكمة العليا حيال السلطة التنفيذيّة. هؤلاء يخوضون معركة الديمقراطيّة في مواجهة الحدّ الشعبويّ منها والقضم الزعاماتيّ لها.

وإذا كان من غير المألوف لبلد، في يومنا هذا، أن يحتلّ ويمارس الاستيطان، فمن غير المألوف، أقلّه في الشرق الأوسط، أن يتظاهر مئات الآلاف من شعب ما دفاعاً عن المحكمة العليا. إنّها، للأسف، قضيّة غير شعبيّة بتاتاً في سائر بلداننا.

جمع هاتين السِمتين معاً يضعنا أمام ما يمكن أن نسمّيه ديمقراطيّة قديمة، أو ديمقراطيّة كولونياليّة. هنا، في هذه التجربة، تُعاش السياسة وتُمارَس على نحو متقدّم في داخلٍ وطنيّ ما، أمّا من يخرج عن هذا الداخل ومن لا ينتمي إليه فغريبٌ وآخر. والآخر هذا هو تعريفاً أدنى وأقلّ استحقاقاً، بل ربّما عُدّ، وفق لغة الأثينيّين القدامى، من «البرابرة».

وإذا كانت جنوب أفريقيا، إبّان التمييز العنصريّ، هي المثل الفجّ عن هذا النموذج، فقد سبق لبلد كميانمار أن قدّم مثلاً آخر: فهناك قاتلت أونغ سان سو كي دفاعاً عن الديمقراطيّة والحكم المدنيّ في مواجهة العسكر، وكان لقتالها هذا، بما فيه من تعرّض مديد للسجن وللاضطهاد، أن حوّلها أيقونة ديمقراطيّة على نطاق عالميّ. هكذا، مثلاً، نالت جائزة نوبل للسلام في 1991 وتحوّلت موضوعاً لاحتفال كونيّ لا ينقطع. لكنْ حين سقط الحكم العسكريّ وباتت هي الحاكم الفعليّ الأوّل، رأيناها تشرف على مذبحة بحقّ مسلمي الروهينغيا في بلدها. وكان لتواطؤها مع الجنرالات في تنفيذ الجريمة الجماعيّة، ثمّ توفيرها الغطاء للجريمة تلك، أن ألغى حاجة العسكر إليها وإلى الغطاء الديمقراطيّ. وبالنتيجة، أطاحها الجنرالات الذين انقلبوا على السلطة في 2021، على رغم أنّ حزبها كان، قبل أشهر فقط، قد فاز في الانتخابات العامّة.

بمعنى آخر، لا تستطيع الديمقراطيّة، وقد باتت قيمة كونيّة، أن تكون ديمقراطيّة «هنا» وأن تكون احتلالاً «هناك»، لأنّ فصلاً حادّاً كهذا ما بين داخل وخارج لا يلبث أن يتمدّد ويغدو فصلاً داخل الـ«هنا» نفسها. إنّ ذلك وصفةٌ ناجعة للقضاء على الديمقراطيّة والسياسة.

والحال أنّ سلوكاً كهذا إنّما يخالف المسار التاريخيّ المعروف. ذاك أنّ الديمقراطيّة الحديثة إنّما ولدت أصلاً في البلدان الاستعماريّة، ثمّ تطوّرت وصار من مواصفاتها الجوهريّة نزع الاستعمار ومناهضته. وكانت المعركة هذه قد حُسمت في فرنسا مع نيل الجزائر استقلالها. فحينذاك تبدّى بوضوح أنّ استمرار الاحتلال لن يسقط الديمقراطيّة الفرنسيّة فحسب، بل يهدّد بنشوب حرب أهليّة بين الفرنسيّين ذاتهم.

واحتمال انتكاس الديمقراطيّة إلى زمن سابق بارحتْه وتجاوزتْه يجد اليوم ما يعزّزه في الصعود الشعبويّ الذي يقوده قادة قوميّون، قادةٌ ولاؤهم للقوميّة ولدورهم الزعاميّ أكبر كثيراً من ولائهم للديمقراطيّة.

أمّا بالعودة إلى إسرائيل وديمقراطيّتها الناقصة، المهدّدة اليوم، فسوف يكون من الصعب توهّم الخلاص مع استئناف السير على الدرب نفسه. وبالمعنى هذا سيكون ممّا لا مهرب منه المزاوجة بين الدفاع عن صلاحيّات المحكمة العليا والتصدّي للاحتلال والاستيطان. وهي المهمّة التي سيكون في وسع الفلسطينيّين استكمالها إذا شاؤوا، بإبدائهم اكتراثاً أكبر ومساهمة أعلى في الحدث الإسرائيليّ المفصليّ. ذاك أنّ معسكر الديمقراطيّة في الدولة العبريّة، ولو كانت ديمقراطيّته ناقصة، يتأثّر بالخارج وضغوطه، كما تمكن مخاطبته بالاستناد إلى قيم جامعة وقابلة للتطوير، وهذا ناهيك عن كون المعسكر المذكور الطرفَ المتضرّر على نحو مباشر من أيّ انهيار ديمقراطيّ. أمّا معسكر الدينيّين والقوميّين، الملتفّ حول بنيامين نتانياهو، فلا يحمل إلاّ الموقف المغلق والعداء المحض لسواه.

في المقابل، وبعيداً من المبالغات الورديّة لإيران ولفصائلها الفلسطينيّة واللبنانيّة، ليس الوضع الأهليّ للفلسطينيّين بمُشجّع على افتراض أنّ الانهيار الإسرائيليّ قوّة لهم، ممّا يردّده كثيرون عندنا. بل ربّما شكّل انهيار كهذا مدخلاً إلى انهيار فلسطينيّ آخر يضاف إلى مسلسل الانهيارات، لا سيّما أنّ السلطة الفلسطينيّة، بفعل جهودها معطوفة على جهود خصومها، عاجزة عن إحداث أيّ تأثير إيجابيّ ملموس. أمّا المنطقة العربيّة المحيطة بفلسطين وإسرائيل فتعيش بدورها ذروة غير مسبوقة في التفتّت الذي يتمدّد من لبنان وسوريّا إلى العراق وبالعكس.

وهي، في النهاية، مسؤوليّة أطراف كثيرة لا يجمع الحبّ بينها، لكنّ المصلحة يمكن أن تجمع، وينبغي أن تجمع. هذا هو الدرس الذي استنتجه، في جنوب أفريقيا، كلٌّ من مانديلّا ودوكليرك، وليس لدينا مَن يستنتج مثله.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا مانديلّا لدينا ولا دوكليرك لا مانديلّا لدينا ولا دوكليرك



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon