توقيت القاهرة المحلي 11:36:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى!

  مصر اليوم -

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى

بقلم - حازم صاغية

«الكيل بمكيالين» تعبير رائج في الكتابة السياسيّة العربيّة يُقصد به أنّ العرب يعامَلون معاملة أسوأ ممّا يعامَل به الآخرون. التعبير غالباً ما يُستخدم في ما خصّ القضيّة الفلسطينيّة وإسرائيل، فيما الطرف الذي يُلام على ذلك هو «الغرب». وهذا علماً بأنّ معظم اللائمين يعتبرون هذا الغرب عدوّاً، والعدوّ لا حاجة بنا للومه، فهو عدوّ، ولا لفضحه، فهو مفضوح.

هنا مَثَل معاكس عن طريقة أخرى في فهم «الكيل بمكيالين»:

حين توفّي ميلان كونديرا، قبل أيّام، أصدرت بيئة الممانعين مراسيم شماتة برحيل الأديب التشيكيّ. بالطبع كان الذين عبّروا عن حبّهم لأدبه، تبعاً لأسباب أدبيّة، أكبر كثيراً. وهذا مدعاة تفاؤل بتوسّع الاهتمام العربيّ بالأدب لذاته، وبنشأة استعدادات (لم نُعرف بها كثيراً من قبل) لفصل الأعمال الجماليّة عن السياسة.

لكنّ هَجّائي الممانعة، الذين لم يستوقفهم الأدب إلاّ لماماً وعَرَضاً، صبّوا غضبهم على كونديرا لنيله جائزة إسرائيليّة وقوله كلاماً طيّباً عن الدولة العبريّة.

وهذا ممّا يؤاخذ عليه الأديب الراحل فعلاً، كما يؤاخذ عليه فنّانون ومبدعون غربيّون كثيرون (وإن قلّ عددهم) لم يستوقفهم الاحتلال والاستيطان الإسرائيليّان، ولا الألم النازل بالفلسطينيّين من جرّائهما.

مع هذا فبناء الموقف من كونديرا على موقفه من إسرائيل (وإن مرّت عبارة أو عبارتان تقولان إنّه أديب لا بأس به) ليس ممّا يُحسد صاحبه عليه. فإسرائيل وفلسطين ومسائلهما مجرّد هامش في حياة الكاتب التشيكيّ وفي تجربته الثقافيّة. أمّا المبالغة في الاستناد إلى هذا الهامش فيؤدّي، مرّة أخرى، إلى تضييق الزاوية التي يُنظر منها إلى العالم، والتي على ضوئها يتمّ التفاعل معه ومع ما ينتجه، أكان في مجال الإبداع أو في أيّ مجال آخر. يصحّ هذا على حقول لا حصر لها من العلوم الطبيعيّة إلى العلوم الاجتماعيّة، ومن الرياضة إلى الموسيقى والغناء... إنّه وصفة باهرة للانعزال الذاتيّ.

فوق ذلك، تقدّم طريقة التعاطي المذكورة مثلاً آخر عن التسييس المَرضيّ الذي يفتك بمجتمعات لا تعرف السياسة فتعوّض بالتسييس الفائض عن فقدانها. هكذا يُختصر جهد إبداعيّ كبير بردّه إلى موقف سياسيّ صغير، وقد يُختصر الأخير إلى عبارة أو عبارتين.

لكنّ ما هو أهمّ يتّصل بفعاليّة هذا النقد السياسيّ لكونديرا، أو لأيّ كان. فالإدانة كانت لتجد اهتماماً أكبر بها، وتعاطفاً أكبر معها، لو صدرت عن متضامنين مع قضيّة كونديرا السياسيّة. في حالة كهذه، كانت المقارنة لتكون حادّة جدّاً بين تأييد عربيّ للتشيكوسلوفاك حين سحقتهم الدبّابات الروسيّة في 1968، وموقف كونديرا المتنكّر للحقّ الفلسطينيّ. لكنّنا نعلم أنّ التيّارات الثقافيّة العريضة في العالم العربيّ عبّرت عن مواقف معاكسة تماماً، وكانت أصواتها الأعلى تشكّك بمناهضة الأنظمة الشيوعيّة وبمناهضيها.

وبالانتقال إلى النُخب الثقافيّة تحديداً، فإنّ النخبة التشيكوسلوفاكيّة ربّما كانت من أكثر نُخب أوروبا تعرّضاً للسحق بعد الحرب العالميّة الثانية، لا يتفوّق عليها في هذه المعاناة إلاّ النخبة السوفياتيّة.

لقد سُرّح آلاف الكتّاب والفنّانين والسينمائيّين من أشغالهم وباتوا عاطلين عن العمل، وطُهّر أربعون ألف صحافيّ، وانضمّ أربعمئة ألف ممّن يندرجون في الإنتلجنسيا إلى العمّال اليدويّين، وخُنقت الجامعات والمسارح، وشقّت هجرة واسعة طريقها إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة. ومعروف أنّ تشيكوسلوفاكيا شهدت، ما بين قيام النظام الشيوعيّ في 1948 وسقوطه في 1989، هجرة 550 ألفاً شكّلوا 3.5 في المائة من السكّان حينذاك، وأقلّ قليلاً من نصف هؤلاء هاجروا ما بين 1968 و1989.

وكان قد صدر في صيف 1969 ما عُرف بـ»الإجراءات القانونيّة» الهادفة إلى «ضمان النظام العامّ وحمايته»، حيث نقرأ في الفقرة الرابعة منها ما يلي: «ذاك الذي يعرقل بنشاطه النظام الاشتراكيّ... يمكن فوراً تنحيته عن منصبه أو فصله من عمله... وفي ظروف كهذه يمكن أن يُمنع الطالب من إكمال دراسته (...) وفي حالة الأساتذة في معاهد التعليم العالي وسواه، يستطيع أيضاً الوزير المخوّل أن يفصلهم من وظائفهم أو يأمر بطردهم فوراً إذا أقدموا، وبما يخالف واجباتهم، على تعليم الشبيبة ما يعارض مبادئ المجتمع الاشتراكيّ وبناءه».

مع هذا، ففي العالم العربيّ لم يكن رأينا بالمثقّفين التشيكوسلوفاكيّين أفضل من رأينا بالشعب التشيكوسلوفاكيّ. ذاك أنّ عموم المنشقّين، في تشيكوسلوفاكيا وفي سائر بلدان الكتلة السوفياتيّة، صُوّروا خونةً وجواسيس وعملاء للإمبرياليّة. بهذا كان الموقف العربيّ الإجماليّ أسوأ حتّى من مواقف معظم الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا الغربيّة، ومن مواقف مثقّفيها، ممّن دانوا غزو 1968 ومعاملة النظام الشيوعيّ للمثقّفين المعارضين.

بكلام آخر: نحن لا بأس بأن نُعفى من التضامن مع المقهورين، لكنّ التشيك لا ينبغي أن يحظوا بمثل هذا الامتياز. أمّا أن لا نُعامَل بالمعايير الصارمة التي نُخضِع سوانا لها، فهذا ليس سوى كيل بمكيالين يسند نفسه إلى المظلوميّة واحتكار موقع الضحيّة والمظلوم، تماماً كما يفعل إسرائيليّون يجيزون لأنفسهم كلّ ارتكاب، وينتزعون من سواهم كلّ حقّ.

والحال أنّ طلب التميّز هذا هو في وجهه الآخر طلب للشفقة التي يُعامَل بها مُحتكر المظلوميّة أحياناً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon