توقيت القاهرة المحلي 21:31:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة

  مصر اليوم -

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة

بقلم - حازم صاغية

باستلهامها رواية العهد القديم، إمّا مباشرةً أو مداورةً، طوّرت الإيديولوجيّات الحديثة من قوميّة واشتراكيّة وسواهما روايتها للتاريخ. وقد تشاركت الصيغتان القديمة والحديثة في تضمين الرواية فصولاً أربعة:

فأوّلاً، هناك العالم البَدئيّ الرائع الذي هو جنّة عدن، أو، وفق النسخ الحديثة، حياةٌ من الحرّيّة سبقت قدوم الاستعمار، أو عيشٌ في مساواة «المشاعيّة البدائيّة» قبل أن تنشأ الطبقات الاجتماعيّة، أو «حالة الطبيعة» المثلى في تأويل جان جاك روسّو لها...

وثانياً، هناك اللعنة التي تحلّ على البشر قاطبة، وهي نتاج مخالفة آدم لله بفعل إيحاء شيطانيّ، أو هي، وفق النسخ الحديثة، وفادة الاستعمار أو ظهور الاستغلال الطبقيّ...

وثالثاً، هناك لحظة تفجُّر الخلاص وانبلاج فجره، وهي تتمثّل في ظهور دين ودعوة بعينهما، يهتدي بهما الضالّون، أو، وفق النسخ الحديثة، ولادة نهضة قوميّة، أو نشأة طبقة عاملة، وغالباً ما تقترن تطوّرات كهذه بثورات ومعارك ملحميّة فاصلة.

ورابعاً وأخيراً، وفي نهاية طافحة بالسعادة، يحلّ الخلاص على البشريّة، فيطرد الإيمانُ والتقوى مَن آثر البقاء على ضلاله، أو، وفق النسخ الحديثة، تنتصر الوحدة القوميّة على أعداء الأمّة ومُجزّئيها، أو تعمّ الاشتراكيّة وتندحر الرأسماليّة...

وهكذا، لئن أوكل العهد القديم مهمّة قيادة التاريخ إلى الله، تولّت القوى الحديثة ردَّها إلى «الإرادة» أو إلى «العلم» اللذين يُفترض بالبشر فهمهما ومواكبتهما والدفع في اتّجاههما.

لكنّ القوى التي بشّرت برواية الفصول الأربعة هذه عملت كلّها على إضعاف قدرة البشر على الفهم والمواكبة والدفع. فهي، من دون استثناء، حاولت أن تفرض روايتها تلك روايةً واحدة للتاريخ يُذعن البشر لها. ولإنجاز الغرض هذا، وُظّفت مراكزُ عبادة ومؤسّسات تعليم، ثمّ جيوش وأجهزة أمن وسجون، ودائماً منظوماتٌ أخلاقيّة قُدّمت بوصفها وحدها الأخلاق القويمة. فمَن يخالف الرواية هذه خائن أو مشبوه أو مشعوذ، فيما هي، وبالتعريف، لا تقبل أيّ تعايش مع رواية أخرى، ولا تطيق أيّ تردّد، مهما كان طفيفاً، حيال الجزم بأنّ التاريخ كلّه يُنسج على منوالها ولا يُنسج إلاّ عليه. فحتّى المؤمن إذا اختلف إيمانه في تفصيل صغير عن الرواية الرسميّة وُصم هرطوقيّاً، والشيء نفسه يصحّ في الماركسيّ الذي لا يكون سوفياتيّ الهوى فيغدو تحريفيّاً، أو في اليهوديّ، المؤمن أو الملحد، الذي يخالف الصهيونيّة فيصير كارهاً للذات...

ومع التصاق الرواية بمؤسّسة وقائد وزعيم، تسلّلت الأحكام الزجريّة إلى اعتبارات شخصيّة، فباتت تجوز على مَن لا يستلطفه الزعيم، لسبب قد يكون شخصيّاً، تهمة تشويه تلك الرواية كجزء من مخطّط تآمريّ خطير. ورغم البراهين الكثيرة على أنّ اليقين الرفيع قد تختبىء فيه حسابات وضيعة، بل رغم أنّ التاريخ «يفاجئنا»، مرّة بعد أخرى، بأنّه أذكى وأشدّ مرونة وأكثر احتيالاً من أن يُصبّ في تلك القوالب، ظلّت رواية الفصول الأربعة جاثمة على النفوس والعقول بأسماء وعناوين مختلفة.

اليوم، في المشرق العربيّ خصوصاً، تجد الرواية إيّاها ضالّتها في الحرب الإسرائيليّة على غزّة. فالفصل الأوّل مفاده أنّ الصمود والبطولة واليقين كانت في ذروة تألّقها وفي أحسن أحوالها قبل أن يهبط علينا، عام 1993، اتّفاق أوسلو اللعين. أمّا الفصل الثاني فمؤدّاه أنّ الاتّفاق المذكور افتتح عصراً من الخيانة والانحطاط والحصار والتخلّي عن الشعب الفلسطينيّ وحقوقه. بعد ذاك جاءت عمليّة السابع من أكتوبر لتفتتح الفصل الثالث، حيث تلتقي البطولة والعبقريّة وقلب طاولة التاريخ على لئام التاريخ. وبالفعل ففي الفصل الرابع تنفتح الأبواب كلّها أمام مسيرة نورانيّة أوّلها إعادة القضيّة إلى الضوء ويكون تتويجُها في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وفي التعامل مع هذه الرواية لا يجوز إلاّ الانبهار بالقادة والزعماء وبأفعالهم التي دائماً ما أصابت كبد الحقيقة.

وبالطبع فإنّ الروايات الجانحة إلى الملحميّة لا تستوقفها التفاصيل الصغرى، بما فيها الألم الإنسانيّ، إذ «هكذا تتحرّر الشعوب»، كما يقال اليوم بثقة بالنفس يُحسد أصحابها عليها.

ولا نضيف جديداً إذا قلنا إنّ الأطراف التي تستولي على القضيّة، تستولي على الرواية، وروايةُ الطرف الأقوى هي الرواية الأقوى، فمَن لا يتقيّد بها يفقد حقّه في أن تكون له روايته، فضلاً عن فقدانه كلّ انتساب إلى القضيّة الأمّ المفترضة. هكذا تأتينا السرديّة المُلزِمة متخمةً بالتديين والأسطرة، حيث نسمع مرّةً بعد مرّة ما نعرفه وما نحفظه أصلاً، نُشنّف آذاننا بكلام مكرور يكون أكثره تفنّناً وإبداعاً أكثره إضجاراً.

وفيما تمضي إسرائيل في فتكها الإجراميّ، وتتزايد حاجتنا إلى الأفكار والتعدّد، يُرسَم التعبير المغاير الذي يخالف الطقوس والمحفوظات عملاً من أعمال الشيطان. فلئن استطاعت النسخة الأولى من الميثولوجيا أن تنجّي نوح وحده، فإنّ نوح، في أشكال الميثولوجيا الجديدة، يغرق هو أيضاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon