توقيت القاهرة المحلي 21:08:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الجنوب اللبناني واللحظتان الإبراهيميّتان

  مصر اليوم -

الجنوب اللبناني واللحظتان الإبراهيميّتان

بقلم - حازم صاغية

 

رأى بعض المؤمنين على طريقة إيمانويل كانط، أي القائلين بالدين ضمن حدود العقل، أنّ ثمّة لحظتين في التجربة الإبراهيميّة: في الأولى، أُمر إبراهيم بأن يذبح ابنه (اسحق في التوراة، واسماعيل في القرآن)، وأن يقدّمه أضحية، وهذا علماً بأنّ نجله كان أُعطية إلهيّة ثمينة قُدّمت لابراهيم بعدما بلغ من العمر عتيّا. أمّا اللحظة الثانية فكانت بمثابة تصحيح للأولى، إذ تدخّل الله لردع ابراهيم عن قتل ابنه واستبداله بكبش يُضحّى به.

وتشي هاتان اللحظتان بطريقتين، لا في التعبّد فحسب، بل أيضاً في التضحية. فالطريقة الأولى حَرْفيّة في الفهم ومجّانيّة في التضحية، رغم أنّ تضحيتها قد تكون بالغة الكلفة وشديدة الإيلام للمُضحّي. أمّا الطريقة الثانية فتتّسع للفهم المجازيّ والتفكير والتخيّل اتّساعها للعقل والمقارنة وحساب النفع والمردود.

وأغلب الظنّ أنّ الحرب التي يخوضها اليوم «حزب الله» في الجنوب اللبنانيّ قابلة للتنسيب إلى اللحظة الابراهيميّة الأولى. فعناصر الحزب وكوادره يُقتلون بكثرة هناك، وهذا ربّما كان من حقّه الذي لا يُناقَش فيه. لكنْ ليس من حقّ الحزب أن تتسبّب حربه بقتل أعداد من المدنيّين وبتهديم البيوت وترويع السكّان ونزوح أكثر من 120 ألفاً منهم إلى صور وبيروت وتسميم المواسم الزراعيّة للجنوبيّين، وهو ما قد تمتدّ مفاعيله طويلاً، وهذا فضلاً عن إبقاء اللبنانيّين كلّهم في حال من الذعر خوفاً من احتمال توسّع الحرب التي يصعب ضبطها والتحكّم بمنع توسّعها.

يزيد في قتامة الصورة ما هو معروف جيّداً عن الدولة اللبنانيّة بوصفها طرفاً لا يملك أيّ قول في الأمر، وهذا فيما المحاولات الديبلوماسيّة من الخارج لا تستوقف الحزب ولا تسترعي انتباهه ما دامت الحرب دائرة في غزّة.

أمّا نظريّة إبقاء الجنوب على ما هو عليه دعماً للقطاع، فتدفع إلى التساؤل: ماذا كان يمكن للدولة العبريّة أن تفعل بغزّة أكثر ممّا فعلته لو لم يتدخّل «حزب الله»؟ والمتابع لا تعوزه ملاحظة أنّ المداولات الدائرة عربيّاً ودوليّاً لتعطيل الحملة على رفح لم تلحظ، لا من قريب ولا من بعيد، أيّ دور للجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة في ذلك.

مع هذا كلّه يُشيع دعاة المقاومة للمقاومة رواية من صنف غريب، مفادها أنّ الذين يحبّون الجنوب ويعتبرونه جزءاً عزيزاً من الوطن هم الذين يريدون زجّه في هذه الحال الحربيّة، فيما الذين لا يحبّون الجنوب هم الذين يريدون إخراجه منها. وتفسير ذلك كامن في جوابين لا يصمدان أمام تمحيص سريع: أمّا الأوّل، المستقى من تاريخ خطابيّ شهير، فأنّ الشعوب لا تستقلّ ولا تتحرّر إلاّ من خلال التضحيات، وهذا علماً بأنّ لبنان بلد مستقلّ منذ سبعين عاماً، فيما أغلبيّة كبرى من أبنائه، بمن فيهم الجنوبيّون، ترى أنّ نسبة التحرّر التي يحظون بها أكثرُ من معقولةٍ في منطقة الشرق الأوسط. وفي الحالات جميعاً، لا تبدو أوضاعنا الرديئة سبباً كافياً لما يسمّيه الشعراء والرؤيويّون «معانقة الفناء». وأمّا الثاني فأنّ إسرائيل لا بدّ أن تستهدفنا بغزو، أو بنصف غزو أو بربعه، لأنّها جوهريّاً لا بدّ أن تستهدفنا. ومن دون تبرئة إسرائيل من الأغراض الشريرة، يبقى أنّ هذه الرواية، التي يراد تعميمها، ليست سوى واحدة من السلع التي ينتجها بإفراط مصنع الكذب النضاليّ، وذلك بهدف تطبيع الحالة الحربيّة وحمل السلاح وتمجيد المقاومة. ذاك أنّ المضايقات التي تعرّض لها الجنوب بين توقيع الهدنة في 1949 وبداية العمليّات الفدائيّة الفلسطينيّة في النصف الثاني من الستينات يمكن لأيّة منطقة حدوديّة بين بلدين غير متحاربين أن تتعرّض لها، وهي بالتأكيد أقلّ كثيراً من الأذى الذي أنزلته بلبنان، في حدوده وفي داخله، الأنظمة العسكريّة السوريّة المتعاقبة. وهي حقيقة تجريبيّة تتيح لنا القول إنّ أزمنة الموت والمهانة التي حلّت على الجنوب لم تكن الأزمنةَ التي سيطرت فيها الدولة واحتمى خلالها لبنان بالعلاقات الدوليّة، بل هي الأزمنة التي استولى فيها المسلّحون، الفلسطينيّون في الستينات واللبنانيّون منذ الثمانينات، على أرض السكّان وحياتهم.

وما يخرج منه مُتابع تلك المفارقات أنّ المسلّح في الجنوب هو تحديداً كاره الجنوب لأنّه، من جهة، كاره للصيغة اللبنانيّة التي أجمعت الراديكاليّات النضاليّة كلّها على كراهيتها، ولأنّه، من جهة أخرى، وثيق الارتباط بنموذج خارجيّ كالح يرى في تدمير النموذج اللبنانيّ أو استتباعه شرطاً من شروط نجاحه وتغلّبه على ضعف شرعيّته. وعملاً بهاتين المقدّمتين يحتلّ التيمّن باللحظة الابراهيميّة الثانية موقعه المهيمن. فالتضحية بالأرض والسكّان، رغم مجّانيّتها، تُصوَّر شيئاً نبيلاً ومجيداً بذاته لأنّها تُكسب أصحابها المقاومة وتُهديهم «قوافل» من الشهداء يُستحسن أن تكون طويلة وعريضة. فهذه هي وحدها الطريق إلى رضا آية الله الخامنئي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجنوب اللبناني واللحظتان الإبراهيميّتان الجنوب اللبناني واللحظتان الإبراهيميّتان



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon