توقيت القاهرة المحلي 22:20:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن «الرجل الأبيض»!

  مصر اليوم -

عن «الرجل الأبيض»

بقلم - حازم صاغية

يشبّ اليوم حريق يلتهم العقل مُسابقاً الحريق الآخر الذي تُشعله إسرائيل بأرض غزّة وبمقوّمات حياة سكّانها. وقد بدأ هذا قبل الحرب الراهنة بسنوات، لكنّه وجد مُنيَته فيها، إذ الكوارث تقتات دائماً على الكوارث.

أمّا أحد عناوين الحريق الذي نقصد فهو «الرجل الأبيض».

والحال أنّ في تعريف الجماعات والشعوب بلونِها شيئاً من الالتحام بالطبيعة التي لم يذلّلها اجتماعٌ ولا دجّنها تحديث. وهذا إنّما يذكّرنا بعالم طَرَزان، كما يُغري بافتراض لعبة تسلّي الأطفال: فـ»الرجل الأبيض» أباد «الرجل الأحمر» وقهر «الرجل الأسود» وحاصر «الرجل الأصفر»... وهكذا دواليك.

وفي ذلك ما يشبه الطريقة التي يعتمدها بعض الإعلام اللبنانيّ حين يستخدم تعابير «السوريّ» و»الفلسطينيّ» و»الأميركيّ» و»الفرنسيّ» والإيرانيّ»، بحيث يكتّل الملايينَ في واحد أحد هو بالضبط حاكم البلد أو زعيمه.

فالفرد لا يوجد، لا في شخصه وسعيِه ولا في رأيه الذي ينحني ذليلاً أمام لونه أو أمام هويّةٍ ما رُبط بها صاحبها على نحو مُحْكَم.

أمّا «الرجل الأبيض» تحديداً، وبوصفه الرجل السيّء، دائم السوء، فلم تشهد حياته سوى حصد المكاسب والامتيازات التي أحرزها بالقوّة وراكمها بالنهب والتجبّر.

فهو، وفق هذه الرواية، لم يُعانِ في تاريخه آلاماً كتلك التي حفّت بالثورة الصناعيّة، أو التي نتجت عن التوتاليتاريّات وحروبها وغولاغها وأفرانها. وهو، باستثناء السرقة والجبروت، لم يبن شيئاً: لا مدرسة ولا جامعة ولا مستشفى ولا جسراً ولا قناة مائيّة، ولا أنتج دواء ولا اخترع سينما ولا بنى طائرة أو سفينة ولا طوّر أيّة تقنيّةٍ مفيدة للبشر.

صحيح أنّ «الرجل الأبيض» انحاز إلى إسرائيل في حربها على غزّة على نحو يناقض قيماً ويخون مبادىء. لكنّ هذا القول نفسه يدلّ على وجود قيم ومبادىء يصعب أن تُتّهم بخيانتها بلدان كروسيا أو الصين أو سواهما، إذ أمرُ القيم والمبادىء هو أصلاً غير مطروح. وأهمّ من ذلك أنّ الموقف الغربيّ الشنيع في غزّة، وأيّ موقف سياسيّ شنيع آخر، لا يكفيان، رغم فداحتهما، دليلاً واحداً مطلقاً يختصر كلّ دليل آخر في الواقع والتاريخ.

ومهما حاول البعض تنسيب اللغة اللونيّة هذه إلى يسار ما، فإنّها ماهويّة ويمينيّة جدّاً. والحال أنّ تراجع اليسار، وتراجع دعوته الأمميّة تالياً، كانا من أسباب هذا الاستفحال الهويّاتيّ الذي رفض ما يفعله اليسار عادةً بردّه التناقضات اللونيّة والجنسيّة إلى أسباب اجتماعيّة تتعدّى اللون والجنس نفسيهما. وبدوره ساهم عصف الهويّات بأحزاب يساريّة أوروبيّة في انفضاض قطاعات عماليّة بيضاء نحو أحزاب اليمين.

وها هي صرخة الحرب ضدّ «الرجل الأبيض» تستأنف صرخات نَوَى أصحابها تكتيل «العرب» أو «المسلمين» أو «الأفارقة» أو «اللاتين». ودائماً كانت الفلسفة المُحرّكة إيّاها: إنّ أمور العالم لا تتغيّر، فإذا وصفناه من أزلِه إلى أبده قلنا إنّه ساحة حرب مفتوحة بين البيض وغير البيض. وهي حرب لا سبيل إلى وقفها أو تحويرها، خصوصاً أنّ الألوان عصيّة على التغيّر.

لكنْ إذا جارينا هذا المصطلح العنصريّ، لغرض المجادلة فقط، جاز لنا التساؤل: وماذا عن «الرجل الأسمر» الذي يجثم على صدر المرأة في أفغانستان، ولكنْ أيضاً في بلدان كثيرة أخرى، والذي فجّر ويفجّر حروباً أهليّة، وهجّر ويهجّر شعوباً، واستبدّ ويستبدّ بأقلّيّات إثنيّة ودينيّة، وأقام أنظمة لا تليق بالعبيد، أهمّ معالمها السجون والتعذيب، وهذا فضلاً عن تفريغه أفكار الاستقلال والتحرّر الوطنيّ من كلّ مضمون إيجابيّ...؟

والراهن أنّ إدانة «الرجل الأبيض» كانت لتؤخَذ بجدّيّة أكبر لو أنّها قُرنت بشيء من هذا النقد للذات، كأنْ يسترعيها ما صنعه أجدادنا في تاريخهم حين غزوا وفتحوا وحين مارسوا تجارة العبيد على نطاق واسع. أمّا أن تخلو اللغة اللونيّة من هذا كلّه، ففي ذلك ما قد يوحي بإقرار خطير ولو مُداوِر، مفاده أنّ «الرجل الأبيض» هو الذات الفاعلة الوحيدة في التاريخ فيما الآخرون، ونحن منهم، دُمى وصنائع. وبهذا لا يعلن نقّادُ «المركزيّة الأوروبيّة» المتحمّسون سوى أنّ التاريخ الأوروبيّ هو وحده التاريخ المهمّ والمؤثّر.

ولا يؤتى بجديد حين يقال أنّ العنصريّة، بيضاء كانت أم سمراء أم صفراء، قاسية وظالمة جدّاً، وأنّ تاريخها بالغ البشاعة، فيما هي لا تزال قائمة ومستمرّة في نفوس قطاعات عريضة من السكّان وفي سلوكها. أمّا الامتيازات التي يتيحها اللون فلا تزال مصدراً لفوارق طبقيّة ولأعمال عزل وفصل سَكَنيّين هنا وهناك، ناهيك عن تحيّزات شخصيّة لا يصعب التدليل عليها. والولايات المتّحدة تحديداً، منذ ما قبل «الكوكلاكس كلان» إلى ما بعد جريمة قتل جورج فلويد الفظيعة، مسرح من مسارح العنصريّة المؤسَّسة على لون البشرة. لكنْ في بلدان «الرجل الأبيض» وحدها تُناقَش العنصرية وتصدر قوانين لمكافحتها، وفيها تُعتَمَد سياسات هجرة ولجوء على نطاق واسع، كما تُطرح مشاريع لبناء مجتمعات تعدّديّة ثقافيّاً وإثنيّاً. وهناك فقط يتحرّك التاريخ صعوداً وهبوطاً وتطرأ تحوّلات كان في عدادها نشوء حركة الحقوق المدنيّة في الستينات الأميركيّة، ومن ثمّ ولادة طبقة وسطى سوداء، أو ظهور أسماء غير بيضاء في أعلى الهرم الاجتماعيّ للدولة والمجتمع.

وربّما كان لسياسات اجتماعيّة أكثر تقدّميّة أن تسرّع وجهة كهذه وأن تقلّل انتكاساتها وتعثّرها، لكنّ مهمّة كتلك لا تتمّ بربع ساعة، كما لا يكون سبيلها ممهَّداً وصاعداً مثل الأوتوسترادات العريضة التي لا تعرف الالتواء والتعرّج.

وفي مطلق الحالات فإنّ العنصريّة المقلوبة هي أيضاً عنصريّة، أمّا الظنّ بأنّ الكلام العنصريّ يفقد عنصريّته حين يصدر عن ضحيّة، فلا يفوقه رداءة سوى افتراض أنّ الضحيّة يستطيع غسل الكلام العنصريّ وتنظيفه بمجرّد تمريره على لسانه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن «الرجل الأبيض» عن «الرجل الأبيض»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري

GMT 18:33 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميا خليفة تحضر إلى لبنان في زيارة خاصة

GMT 14:47 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

الحضري على رأس قائمة النجوم لمواجهة الزمالك

GMT 11:13 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

ما وراء كواليس عرض "دولتشي آند غابانا" في نيويورك
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon