توقيت القاهرة المحلي 21:08:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

  مصر اليوم -

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

بقلم - حازم صاغية

بين ما يجمع العراق ولبنان اليوم أنّ البلدين يتعرّضان لهجوم مُركّب: من جهة، إعدام الدولة الوطنيّة وطمر جثّتها كي لا تنشأ مجدّداً، ومن جهة ثانية، قضم التاريخ والثقافة الوطنيّين أو تشويههما، وحرمانهما فرص التجدّد والانبعاث.

فقبل قرن، ومع نشأة البلدين، ساد ميل إلى إنشاء تسوية في التاريخ والثقافة تواكب التسوية على مستوى الاجتماع السياسيّ. هكذا مثلاً حضرت في كتب التاريخ الرسميّ الحقب الزمنيّة كلّها التي تعاقبت على رقعة البلدين الجغرافيّة، من تلك السابقة على المسيحيّة إلى ما بعد الفتح العربيّ. وفي الثقافة، بمعنى الكلمة الأوسع، تعايشت اتّجاهات إحياء التراث العربيّ، أدباً وشعراً وتصوّفاً، مع انفتاح على الثقافة الغربيّة وعلى مدارس التجريب الفنّيّ على أنواعها.

وبالتوازي، ساد في ظلّ الانتدابين الفرنسيّ والبريطانيّ ثمّ بعد نيل الاستقلال، اهتمامان متلازمان: واحد بالتركيب الفسيفسائيّ للجماعات، ما استدعى مخاطبة حساسيّاتها ومرجعيّاتها التاريخيّة، وآخر بأنّ يُحجز للبلدين موقع على خريطة العالم الثقافيّ. وبهذا حاول النتاجان الثقافيّان أن يصفا «ما نحن عليه» وأن يصفا، في الوقت نفسه، «ما نشارك الآخرين فيه».

وقبل أن تتولّى الخمينيّة الإيرانيّة قيادة الهجوم على الدولة المشرقيّة، وعلى ثقافتها وروايتها للتاريخ، تولّت المهمّةَ الحركةُ القوميّة العربيّة المحتقنة. فالأخيرة في تأثّرها بالرواية القوميّة الألمانيّة – الإيطاليّة، أعلتْ راية القوميّة الناجزة، الواحدة الموحّدة، التي تصنع الدولة المرتجاة بعد هدم الدول القائمة. وهكذا فباسم الهويّة تُنبذ الهويّات الأخرى، وباسم الفتح العربيّ يُنبذ كلّ تاريخ سابق عليه. ومن البيئة هذه ظهرت الإدانة الممزوجة بالسخرية للفينيقيّين والأشوريّين والفراعنة، ومنها أيضاً ظهر الرفض لكلّ محاولة إبداعيّة تحاول تخفيف وطأة السياسة والقضايا الكبرى على الأدب والثقافة. ولم تنجُ من الاستهزاء والتهكّم لهجات بدت على شيء من التغرّب، أو شاء أصحابها مزج كلمات أجنبيّة بكلماتهم العربيّة المنطوقة.

على أنّ الوجهة التعدّديّة والحرّة صمدت في لبنان أكثر ممّا في العراق، وذلك بسبب إفلات اللبنانيّين من الانقلابات العسكريّة المؤدلجة. وحتّى حينما حلّت الحرب الأهليّة في 1975، تمكّنت الجماعات أن تستأنف الوجهة هذه ولو على نحو مجتزأ ومتقطّع وشديد الانتقائيّة. أمّا في العراق فتعرّضت الوجهة إيّاها التي رعاها الملك فيصل الأوّل، إلى هزّة أحدثها تولّي نجله غازي الأوّل العرش ما بين 1933 ووفاته في 1939، هو القوميّ العربيّ المضطرب والمعجب بالنماذج الفاشيّة. بعد ذاك بدأ مسار الانضواء في العتم مع مسلسل الانقلابات العسكريّة البعثيّة وغير البعثيّة التي افتُتحت عام 1963.

والحال أنّ الرغبة في تعطيل الاجتماع السياسيّ وفي منع قيام جماعة وطنيّة ضمن دولة أمّة سيّدة هو ما كان يحفّز هذا الميل الانعزاليّ المناهض للتعدّد وللحرّيّة. ذاك أنّ القضاء على جسمٍ ما يستدعي، بين ما يستدعيه، تشويه معناه واستئصال الغنى الذي تنمّ عنه كثرة أبعاده وربّما تضاربها.

وقد رأينا السيرورة هذه في لبنان والعراق خصوصاً، لكنْ أيضاً في مصر حيث تولّت القوى الإسلاميّة مهمّةَ الزجر قبل أن يتعهّدها جهاز الدولة الناصريّة. أمّا سوريّا، ورغم ذوبانها السياسيّ في 1958، قبل إخضاعها لتوالي الأنظمة العسكريّة، فلم ينشأ اضطرار موازٍ إلى تذويبها الثقافيّ. فإذا استثنينا الجماعة الكرديّة المهمّشة والمستبعَدة أصلاً، ظلّت العروبة، في صيغةٍ ما من صيغها، موضع تسليم لا تحظى به في البلدان الأخرى.

لكنْ عموماً، عبّرت تلك النيّة في الإبادة الثقافيّة لـ»سكّان أصليّين» عن نيّة أكبر في التخلّص من التجارب الوطنيّة التي تحضن الثقافة وترعاها. وبعد انتصار الثورة الخمينيّة، عام 1979، اكتسبت الرغبتان أنياباً أكبر وأقوى. وفي ظلّ ميلودراميّة المقاومة والدماء والأشلاء، بدأت عمليّة تحويل التأويل الواحد للذات وللعالم إلى تأويل أوحد، لا يتّسع لتناقض أو تفاوت. وكما لو أنّ المواطنين أطفال كبرت أجسامهم ولم تكبر عقولهم، طغت الأوامر والنواهي وما يجوز ولا يجوز، مع ما يصاحب ذلك من سفاسف وتفاهات، كالموقف من رأس أبي جعفر المنصور أو من ترجمة كتاب كتبه إسرائيليّ.

وهذا الذي يجري اليوم، في لبنان كما في العراق، هو التأسيس الثاني، بعد تأسيس البلدين قبل قرن. بيد أنّه تأسيس على شكل تفكيك: ذاك أنّ الإخضاع هو مبدأ هذا التأسيس الثاني بعدما كانت التسوية مبدأ التأسيس الأوّل، والإخضاعُ يفضي إلى الحروب الأهليّة أو، في الحدّ الأدنى، إلى اشتهائها.

وبقياس ما يُروى حاليّاً عن الاستعمار والغزو الثقافيّين، وفيه الكثير من الهرف بما لا نعرف، يمكن القول إنّ ما يعانيه العراقيّون واللبنانيّون راهناً ليس استعماراً وغزواً ثقافيّين. فمن جهة، هناك بين أبناء البلدين مَن يمارسون المهمّة متطوّعين، ومن جهة أخرى، يبدو وفاض هؤلاء خالياً وفارغاً تماماً بقياس ما امتلأت به جعبة الاستعمار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon