توقيت القاهرة المحلي 22:38:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

  مصر اليوم -

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

بقلم - حازم صاغية

بين ما يجمع العراق ولبنان اليوم أنّ البلدين يتعرّضان لهجوم مُركّب: من جهة، إعدام الدولة الوطنيّة وطمر جثّتها كي لا تنشأ مجدّداً، ومن جهة ثانية، قضم التاريخ والثقافة الوطنيّين أو تشويههما، وحرمانهما فرص التجدّد والانبعاث.

فقبل قرن، ومع نشأة البلدين، ساد ميل إلى إنشاء تسوية في التاريخ والثقافة تواكب التسوية على مستوى الاجتماع السياسيّ. هكذا مثلاً حضرت في كتب التاريخ الرسميّ الحقب الزمنيّة كلّها التي تعاقبت على رقعة البلدين الجغرافيّة، من تلك السابقة على المسيحيّة إلى ما بعد الفتح العربيّ. وفي الثقافة، بمعنى الكلمة الأوسع، تعايشت اتّجاهات إحياء التراث العربيّ، أدباً وشعراً وتصوّفاً، مع انفتاح على الثقافة الغربيّة وعلى مدارس التجريب الفنّيّ على أنواعها.

وبالتوازي، ساد في ظلّ الانتدابين الفرنسيّ والبريطانيّ ثمّ بعد نيل الاستقلال، اهتمامان متلازمان: واحد بالتركيب الفسيفسائيّ للجماعات، ما استدعى مخاطبة حساسيّاتها ومرجعيّاتها التاريخيّة، وآخر بأنّ يُحجز للبلدين موقع على خريطة العالم الثقافيّ. وبهذا حاول النتاجان الثقافيّان أن يصفا «ما نحن عليه» وأن يصفا، في الوقت نفسه، «ما نشارك الآخرين فيه».

وقبل أن تتولّى الخمينيّة الإيرانيّة قيادة الهجوم على الدولة المشرقيّة، وعلى ثقافتها وروايتها للتاريخ، تولّت المهمّةَ الحركةُ القوميّة العربيّة المحتقنة. فالأخيرة في تأثّرها بالرواية القوميّة الألمانيّة – الإيطاليّة، أعلتْ راية القوميّة الناجزة، الواحدة الموحّدة، التي تصنع الدولة المرتجاة بعد هدم الدول القائمة. وهكذا فباسم الهويّة تُنبذ الهويّات الأخرى، وباسم الفتح العربيّ يُنبذ كلّ تاريخ سابق عليه. ومن البيئة هذه ظهرت الإدانة الممزوجة بالسخرية للفينيقيّين والأشوريّين والفراعنة، ومنها أيضاً ظهر الرفض لكلّ محاولة إبداعيّة تحاول تخفيف وطأة السياسة والقضايا الكبرى على الأدب والثقافة. ولم تنجُ من الاستهزاء والتهكّم لهجات بدت على شيء من التغرّب، أو شاء أصحابها مزج كلمات أجنبيّة بكلماتهم العربيّة المنطوقة.

على أنّ الوجهة التعدّديّة والحرّة صمدت في لبنان أكثر ممّا في العراق، وذلك بسبب إفلات اللبنانيّين من الانقلابات العسكريّة المؤدلجة. وحتّى حينما حلّت الحرب الأهليّة في 1975، تمكّنت الجماعات أن تستأنف الوجهة هذه ولو على نحو مجتزأ ومتقطّع وشديد الانتقائيّة. أمّا في العراق فتعرّضت الوجهة إيّاها التي رعاها الملك فيصل الأوّل، إلى هزّة أحدثها تولّي نجله غازي الأوّل العرش ما بين 1933 ووفاته في 1939، هو القوميّ العربيّ المضطرب والمعجب بالنماذج الفاشيّة. بعد ذاك بدأ مسار الانضواء في العتم مع مسلسل الانقلابات العسكريّة البعثيّة وغير البعثيّة التي افتُتحت عام 1963.

والحال أنّ الرغبة في تعطيل الاجتماع السياسيّ وفي منع قيام جماعة وطنيّة ضمن دولة أمّة سيّدة هو ما كان يحفّز هذا الميل الانعزاليّ المناهض للتعدّد وللحرّيّة. ذاك أنّ القضاء على جسمٍ ما يستدعي، بين ما يستدعيه، تشويه معناه واستئصال الغنى الذي تنمّ عنه كثرة أبعاده وربّما تضاربها.

وقد رأينا السيرورة هذه في لبنان والعراق خصوصاً، لكنْ أيضاً في مصر حيث تولّت القوى الإسلاميّة مهمّةَ الزجر قبل أن يتعهّدها جهاز الدولة الناصريّة. أمّا سوريّا، ورغم ذوبانها السياسيّ في 1958، قبل إخضاعها لتوالي الأنظمة العسكريّة، فلم ينشأ اضطرار موازٍ إلى تذويبها الثقافيّ. فإذا استثنينا الجماعة الكرديّة المهمّشة والمستبعَدة أصلاً، ظلّت العروبة، في صيغةٍ ما من صيغها، موضع تسليم لا تحظى به في البلدان الأخرى.

لكنْ عموماً، عبّرت تلك النيّة في الإبادة الثقافيّة لـ»سكّان أصليّين» عن نيّة أكبر في التخلّص من التجارب الوطنيّة التي تحضن الثقافة وترعاها. وبعد انتصار الثورة الخمينيّة، عام 1979، اكتسبت الرغبتان أنياباً أكبر وأقوى. وفي ظلّ ميلودراميّة المقاومة والدماء والأشلاء، بدأت عمليّة تحويل التأويل الواحد للذات وللعالم إلى تأويل أوحد، لا يتّسع لتناقض أو تفاوت. وكما لو أنّ المواطنين أطفال كبرت أجسامهم ولم تكبر عقولهم، طغت الأوامر والنواهي وما يجوز ولا يجوز، مع ما يصاحب ذلك من سفاسف وتفاهات، كالموقف من رأس أبي جعفر المنصور أو من ترجمة كتاب كتبه إسرائيليّ.

وهذا الذي يجري اليوم، في لبنان كما في العراق، هو التأسيس الثاني، بعد تأسيس البلدين قبل قرن. بيد أنّه تأسيس على شكل تفكيك: ذاك أنّ الإخضاع هو مبدأ هذا التأسيس الثاني بعدما كانت التسوية مبدأ التأسيس الأوّل، والإخضاعُ يفضي إلى الحروب الأهليّة أو، في الحدّ الأدنى، إلى اشتهائها.

وبقياس ما يُروى حاليّاً عن الاستعمار والغزو الثقافيّين، وفيه الكثير من الهرف بما لا نعرف، يمكن القول إنّ ما يعانيه العراقيّون واللبنانيّون راهناً ليس استعماراً وغزواً ثقافيّين. فمن جهة، هناك بين أبناء البلدين مَن يمارسون المهمّة متطوّعين، ومن جهة أخرى، يبدو وفاض هؤلاء خالياً وفارغاً تماماً بقياس ما امتلأت به جعبة الاستعمار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon