توقيت القاهرة المحلي 04:26:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

... بالعودة إلى شابّ اسمه هادي مطر

  مصر اليوم -

 بالعودة إلى شابّ اسمه هادي مطر

بقلم - حازم صاغية

هادي مطر، الشابّ اللبنانيّ الأصل الذي قال إنّه قرأ صفحتين فقط من «آيات شيطانيّة»، طعنَ الروائيّ سلمان رشدي عشر طعنات متتالية. لحسن الحظّ أنّ مطر لم يقرأ الرواية كلّها (546 صفحة)، وإلاّ لكان قد طعنه 2730 طعنة. هذا ما تقوله عمليّة حسابيّة بسيطة.
لكنّ المسألة لا علاقة لها، في آخر المطاف، بالقراءة. لهذا يخطئ الذين يطالبون كارهي رشدي بقراءة الرواية أو بـ«محاورة» كاتبها بدل الدعوة إلى قتله (وكيف «يُحاوَر» روائيّ في روايته؟!).
بقراءة عمله أو بغير قراءته، ينبغي، وفق بيئة عقائديّة ما، قطع رأس سلمان رشدي. ذاك أنّ الأديب الهنديّ - البريطانيّ، الذي يخضع اليوم للعلاج، يطرح علينا التعامل مع عمل إبداعيّ مؤسّس على الخيال، أي أن نفكّر بوصفنا أفراداً أحراراً في موضوع لم يفكّر به السابقون، وأن نقيّمه بصفته هذه وبصفتنا هذه. التحدّي هذا يفاقمه تحدٍّ آخر ملازم له وأشدّ منه قابليّة للانفجار وللتفجير: ارتباط مسألة رشدي بالعيش في مجتمعات تعدّديّة وديمقراطيّة يندر مثيلها في بلداننا العربيّة والإسلاميّة. هادي مطر الذي أُعطيت له هذه الحرّيّة، حيث يقيم في الولايات المتّحدة، خاف منها لأنّها ترتّب عليه مسؤوليّة ما، والحرّيّةُ لا تأتي إلاّ مصحوبة بالمسؤوليّة.
إريك فروم، عالم النفس وعالم الاجتماع الألمانيّ، تناول هذه الظاهرة في كتابه الشهير «الهروب من الحرّيّة»: حين يكون الفرد حرّاً فهذا يجعله أكثر قلقاً وأقلّ شعوراً بالأمان لأنّ عليه أن يتّخذ قرارات ومواقف لم تعد تتّخذها العائلة أو السلطة السياسيّة أو المرجعيّة الدينيّة نيابةً عنه. هذا عبء لا يحتمله الكثيرون، بحيث يهرب أولئك الذين لا يحتملونه من الحرّيّة ومن مسؤوليّاتها إلى تبنّي ما سبق أن فكّره الآخرون وأن قالوه. هكذا يعودون رمزيّاً إلى عهد ما قبل سنّ الرشد الذي غنموا فيه حرّيّتهم، حيث كان آخرون يفكّرون عنهم، بل يعودون إلى ما قبل ولادتهم، أي إلى يومٍ كانوا فيه أجنّةً فحسب. ذاك أنّ الجنين الذي في رحم أمّه هو وحده الذي يعيش الراحة والهناءة المثاليّتين: فهو لا يفكّر ولا يعمل ولا يُضطرّ إلى عقد المساومات مع سواه، بل لا يبذل أيّ جهد بما فيه جهد الحصول على غذائه. هنا، في ذاك الرحم، يكمن الأمان المطلق وانعدام كلّ قلق لدى الجنين.
هادي مطر عثر على الرحم الرمزيّ هذا في تسليم نفسه لـ«إجابة» جاهزة هي إجابة آية الله الخمينيّ التي لم تعبأ أصلاً بالتفاعل مع أيّ جديد أو طارئ، أكان أدباً خياليّاً أو عيشاً في مجتمعات تعدّديّة وحديثة. إجابة الخميني البسيطة والمتوقّعة التي تبنّاها مطر هي التالية: لقد أساء سلمان رشدي إلى ديننا وإلى مقدّساتنا فاقتلوه، ومن يقتله يُكافأ في هذه الدنيا وفي ما بعدها أيضاً!
الحلّ سهل إذاً، يزيد في سهولته عدم الاكتراث بالآخر الأميركيّ الذي يعيش مطر على مقربة منه، وعدمُ التفكير به وبطريقة حياته وبحساسيّته، فضلاً عن قوانينه. هنه أرنت، عالمة السياسة الألمانيّة - الأميركيّة، كانت قد نبّهتنا في تقريرها ذائع الصيت عن محاكمة النازيّ أدولف أيخمان في إسرائيل، إلى خطورة عدم التفكير، لا سيّما غياب التفكير بالآخر ومع الآخر. فأيخمان، في كتابها الذي حمل كعنوان فرعيّ «عاديّة الشرّ» (أو ابتذال الشرّ)، لم يدرك طبيعة أفعاله بسبب عجزه عن التفكير من موقع الآخرين. هذا الافتقار، الذي يفسّر ارتكابه جرائمه، تنعدم معه كلّ قدرة على تمييز الصحّ عن الخطأ. عند أرنت، هذه هي بالضبط العاديّة المبتذلة في الشرّ.
فإذا قارنّا نظريّة فروم بنظريّة أرنت تحصّل لنا التالي: إنّ أهمّ نتائج العودة إلى ما قبل الولادة أن نكون وحدنا، لا شركاء لنا في هذه الدنيا، وليس هناك ما يملي علينا أن نأخذ في اعتبارنا آخرين، أو نحسب لهم حساباً.
يبقى فصل ثالث لا يبدو بدوره قليل التأثير: حين يزور هادي مطر لبنان ويشاهد بعينيه قوّة «حزب الله» المستفحلة، غير العابئة بأيٍّ كان، يتأكّد من صحّة الإجابة الخمينيّة: إنّها توفّر لنا التمكين والقوّة اللذين لا نحتاج معهما إلى التفكير المستقلّ، أو التفكير بالآخر، كما لا تُضطرّنا إلى تحمّل عبء الحرّيّة وعبء المسؤوليّة التي تصاحبها.
بهذه المعاني جميعاً، يصيب التخلّص من سلمان رشدي أهدافاً أخرى على رأسها التخلّص من مشكلة، أو من همّ، الحرّيّة والمسؤوليّة وأعباء العيش مع آخرين مختلفين. لأسفهم، يُرجَّح أن يعيش رشدي، وأن تبقى المسائل التي طرحتها قضيّتُه حيّةً تُرزق.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 بالعودة إلى شابّ اسمه هادي مطر  بالعودة إلى شابّ اسمه هادي مطر



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 04:30 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

قائمة الفائزين بـ"جوائز الكرة الذهبية" 2024
  مصر اليوم - قائمة الفائزين بـجوائز الكرة الذهبية 2024

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon