توقيت القاهرة المحلي 17:23:51 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عاشت مجتمعاتنا راكدة مغلقة!

  مصر اليوم -

عاشت مجتمعاتنا راكدة مغلقة

بقلم:حازم صاغية

مع الحرب الأميركيّة في العراق عام 2003 ظهرت حجّة تناهض الحرب حرصاً على العراق وعلى الديمقراطيّة وعلى القانون الدوليّ. ذاك أنّ الديمقراطيّة لا تُفرض بالقوّة وعلى الضدّ من القانون. هذا إساءة للمفهومين معاً، فضلاً على إساءته للعراقيّين أنفسهم.
الحجّة كانت وجيهة، والسنوات والتجارب اللاحقة زادتها وجاهة. ضعفُها كان نابعاً من أنّ معظم مردّديها لا يهمّهم العراق ولا الديمقراطيّة ولا القانون الدوليّ. تخيّلوا نظاماً كالنظام السوريّ، مثلاً لا حصراً، يردّد هذه الحجّة فيما يرسل إلى العراق أدوات الموت.
اليوم، هناك في بيئة الممانعين حملة على المنظّمات الدوليّة وعلى جورج سورس بالتحديد: إنّ هؤلاء يدعمون قيماً غير قيمنا! إنّهم طابور خامس. حصان طروادة.
بالطبع سيكون مضحكاً لو تحدّث نقّاد الممانعة عن أنّ تلك المنظّمات تستخدم القوّة لفرض قيمها، أو أنّها تسيء للديمقراطيّة أو تتجاوز على القانون الدوليّ. مع هذا فالحدّة التي تُواجَه بها هي الحدّة إيّاها التي ووجهت بها الحرب الأميركيّة بجيشها وطائراتها ودبّاباتها.
أين تكمن المشكلة الفعليّة إذاً؟
أغلب الظنّ أنّ ما تكرهه بيئة الممانعين هو التدخّل الذي يغيّر أوضاعنا، أكان التدخّل عنفيّاً أم غير عنفيّ، قانونيّاً أو غير قانونيّ، وذلك بغضّ النظر عن مدى التغيير الذي ينجح في إحداثه. أمّا التدخّل الذي يثبّت أوضاعنا ويكرّسها فمرحّب به دائماً، بدليل الاحتفال الصاخب والمتواصل بالاحتلالين الفظّين الإيرانيّ والروسيّ في سوريّا لإسناد نظام تعود أصوله إلى 1963.
يندرج هذا السلوك في نظرة عريضة إلى العالم عنوانها: نريد أن تبقى الأشياء على ما هي عليه، وأن تُخنق الحرّيّة التي تتطاول عليها. ولأنّ تلك النظرة كونيّة، يكون المديح نصيب السياسة التي تمارسها روسيا في نطاقها الجغرافيّ المباشر، ومفادها سحق أيّة رغبة قد تراود الشعوب. كذلك تُمتدح الصين بسبب تهديدها إرادة التايوانيّين في الحفاظ على استقلالهم، وإرادة أهل التيبيت في أن يستقلّوا، بينما يلفّ الصمت إخضاع الصين، بقسوة وجلافة بالغتين، لسكّانها المسلمين.
هكذا يغدو تحصيلاً حاصلاً أن تُسمّى سياسات الممانعة سياسات رجعيّة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنّ همّها الأوحد الحفاظ على الأوضاع القائمة، ووقف التحوّل الذي أنتجته نهاية الحرب الباردة عند حدّه. وهي توجّهات تتجاوز الممانعين بطبيعة الحال، كما تطال أنظمة وجماعات أخرى، إلاّ أنّ الممانعين وحلفاءهم الدوليّين هم الذين يتولّون صياغتها الآيديولوجيّة وتبرير المواقف المنجرّة عنها. غير الممانعين من كارهي كلّ تدخّل مصابون بالحرج وأحياناً بالبُكم.
أمّا الأجندة الراديكاليّة الخالدة التي ينبغي أن لا تتغيّر فيمكن وصفها بثلاث حركات متلاحقة: حرب – هزيمة – حرب، أو مقاومة – احتلال – مقاومة... هكذا منذ أحمد عرابي في أواخر القرن التاسع عشر حتّى يوم الدين.
كلّ ما جدّ أنّ الطرف الذي بات يرعى تطبيق هذه الأجندة لم يعد هبّاتٍ شعبيّة وعفويّة تحذر الجديد، بل نظامٌ استبداديّ لا تُساءَل علاقته بشعبه ولا ينبغي إخضاعها للنقاش.
المشكلة أنّ هذا العالم الذي يدافع عنه الممانعون بالغ الهشاشة: تهدّده التجارة والسياحة وشقّ قناة أو بناء جسر. تهدّده الحياة في مجتمع ديمقراطيّ، والاطّلاع، من خلال وسائل التواصل أو التلفزيون، على ما يجري في العالم الخارجيّ. تهدّده المقارنة بالشعوب التي تعيش حياة أفضل نتلصّص عليها. تهدّده السينما والكتاب اللذان «ينبغي مراقبتهما بدقّة» و«عدم السماح بتسلّلهما إلينا»...
بالطبع، وللأسف، فإنّ هذه ليست الوجهة الوحيدة في العالم، وهي قد تتعايش مع وجهات رديئة شعبويّة وقوميّة وربّما عنصريّة. لكنّها، مع ذلك، قويّة بما يكفي لتثير المخاوف. فبلدان الانكفاء عن العالم تفرّ من عزلتها بوسائل شتّى. هذه مثلاً حال فيتنام التي تحاول لاوس تقليدها، وهي كانت لتكون حال كوبا لو لم يُعِد دونالد ترمب، في 2017، الكثير من القيود التي نزعها باراك أوباما عن التعامل معها. ولسوف تكون كوريا الشماليّة، في أغلب الظنّ، آخر البلدان مبارحةً للعزلة وللتعفّن الذي يصيب المعزول.
وهذا بعض ما يفسّر النبرة الجريح التي يعبّر عنها بعض كتّاب الممانعة وإعلاميّيها والتي تجاور النبرة الانتصاريّة المتورّمة التي يتراجع مُصدّقوها: تحسّرٌ دائم على زمن ولّى وعلى قادة رحلوا، وشكوى دائمة من زمن لم تعد فيه الشعارات القديمة «على الموضة»، فيما غدا الناس أكثر انشغالاً بهموم جديدة وأشدّ تعويلاً على طرائق أخرى في النظر والتفكير.
والحال أنّ الأزمنة تتغيّر، وتغيّرها هو بالضبط ما يجعل منها تاريخاً. أمّا عدم الإقرار بالتغيّر، والسير سير القطار الذي لا يلوي على شيء، والعيش على فكرة بسيطة واحدة تناهت إلينا عن آباء وأجداد لم يثبت أنّهم كانوا حكماء بما يكفي...، فهذا إنّما يخرج صاحبه تماماً من التاريخ.
اتركوا مجتمعاتنا راكدة ومغلقة كي نستطيع المضيّ في حكمها وفي إفقارها. هذه هي الحكمة الممانعة اليوم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عاشت مجتمعاتنا راكدة مغلقة عاشت مجتمعاتنا راكدة مغلقة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:13 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة
  مصر اليوم - زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 00:24 2023 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

الأهلي يهدد بتصعيد أزمة الشحات والشيبي للفيفا

GMT 06:06 2018 السبت ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

شاومي تعلن عن حدث في نيويورك بداية الشهر القادم

GMT 23:00 2018 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

الشاعِرة سندس القيسي تُصدِر كتابها الشعري الثاني

GMT 03:05 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

ارتفاع أسعار الخضراوات في الأسواق المصرية الجمعة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon