توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«الليبراليّة العربيّة» بوصفها شيئاً يقرب الاستحالة

  مصر اليوم -

«الليبراليّة العربيّة» بوصفها شيئاً يقرب الاستحالة

بقلم:حازم صاغية

لا يزال الحديث عن «ليبراليّة عربيّة» و«ليبراليّين عرب» يثير من الأسئلة أكثر كثيراً ممّا يقدّم من أجوبة.
فمنذ الإنجليزيّ جون لوك، في القرن السابع عشر، ارتبط الوعي الليبراليّ بحضور الفرد ودوره، وكان البند الأوّل في أيّ تعريف لليبراليّة أنّها توسيع لحرّيّة الفرد على حساب الدولة ونطاقها. ولا يؤتى بجديد حين يقال إنّ الفرد، في العالم العربيّ، لا يزال مشروعاً بعيد التحقّق، فيما لا تكفّ صعوبات هذا التحقّق عن التزايد في موازاة اتّساع الرقعة التي تشغلها الهويّات.
بيد أنّ المسألة أعقد قليلاً من ذلك.
فقد ظهر في بيئة الفكر الليبراليّ من يتقبّل وضع «الجماعة» محلّ الفرد حيث تكون الفرديّة ضعيفة، كما في أحوالنا. هكذا يغدو المطلوب توسيع نطاق الحرّيّة للجماعات، الطائفيّة والإثنيّة وسواها، على حساب الدولة.
بيد أنّ الاستبدال هذا ليس بسيطاً. ذاك أنّ الجماعات التي تكون علّة وجودها موروثة ولاعقلانيّة، لا تختلف عن الأفراد فحسب، بل تختلف حتّى عن الجماعات السياسيّة والآيديولوجيّة، حيث تلعب المصالح والأفكار الدور الوازن. بلغة أخرى، لا يستقيم النظر إلى هذه الجماعات بمعزل عن ميلها العميق والمتأصّل إلى التوكيد الذاتيّ، وهو، تعريفاً، توكيد في مقابل الدولة، كما في مقابل الجماعات الأخرى المشابهة والمنافسة في الآن ذاته. وهذا ما يمكن أن يضع العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة، وفي صورة دائمة، على حدود الاحتراب الأهليّ.
لكنْ في المقابل، إذا كانت هذه الجماعات أشدّ خطراً من الدولة وأكثر قابليّة منها إلى التغوّل، بحيث لا يجوز إضعاف الدولة لمصلحتها، فلسوف يكون من غير الليبراليّ إطلاقاً، مطالبة الجماعات تلك بأن تَحلّ ذاتها، أي أن تكون شيئاً آخر غير ما اختارته لنفسها بمحض إرادتها. فسلوك كهذا، مهما زعم لنفسه التحديث أو الانتساب إلى التقدّم، سوف يكون استبداديّاً بحتاً.
وأمام انغلاق الأفقين معاً لن يفيدنا كثيراً أن نستعين بالتاريخ الأوروبيّ في حروبه الدينيّة التي لم تمنع نشأة الليبراليّة في وقت لاحق. والحال أنّ ما جعل تلك الحروب، أقلّه في التجربة التأسيسيّة لجون لوك التي انبثقت من تأمّل الحرب الدينيّة الإنجليزيّة، سبباً مباشراً للولادة الليبراليّة، هو بالضبط أنّها كانت حروب أفكار ومصالح ولو اتّخذت الأديان (الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة) زيّاً لها. وهذا ما يميّزها نوعيّاً عن حروب العصبيّات، حيث تتراجع الأفكار والمصالح فيما تتقدّم روابط القرابة المصغّرة منها والموسّعة.
لهذا نرى أنّ بلدان النمط الوسيط، أي التي تقع بين النمط الغربيّ وذاك العالم ثالثيّ، غالباً ما تتلكّأ عن تجاوز نزاعاتها الأهليّة فيما يبقى نجاح تسوياتها موضوعاً للحذر والشكّ. يصحّ هذا مثلاً في اتّفاق دايتون لإنهاء الاقتتال في البوسنة عام 1995 أو في اتّفاق الجمعة العظيمة لإنهاء الصراع في آيرلندا الشماليّة في 1998.
أمّا في أحوالنا فيبقى تأسيس الاستقرار المديد، بوصفه الشرط الشارط لأيّ وعي ليبراليّ، مهمّة بعيدة المنال جدّاً، وهو ما تُقدّم بلداننا أمثلة عليه صار تجاهلها من المضحك أو، على الأرجح، من المبكي.
وما يترتّب على ذلك من هشاشة داخليّة يكمّله ويتضامن معه عاملان لا يمكن لأيّ منهما أن يفيد مسألة الليبراليّة وازدهارها:
الأوّل، تولّي الخارج، بأفكاره وربّما بسياسته، وأحياناً بتدخّله المباشر، سدّ بعض الفجوة الناجمة عن خواء الداخل. ولسوف يتأدّى عن ذلك ارتسام الليبراليّين كطرف برّانيّ وغريب، أو كملحق بخطط المنظّمات غير الحكوميّة ووعيها المبسّط.
والآخر، دور الحروب والقضايا الموصوفة بالمصيريّة، القادر دائماً على اختطاف مسألة الحرّيّة وتبديدها، وهذا علماً بأنّ بعض انتفاخ الدور المذكور مردّه إلى التواطؤ مع الهشاشة الداخليّة والأعطال المنجرّة عنها.
بلغة أخرى، سوف يستحيل على الليبراليّ أن ينوجد بصفته هذه: فهو لا بدّ أن يكون ملحقاً بالسلطة في مواجهة جماعة تُخيفه أو تضطهده أو تمارس عليه رقابة مجتمعيّة يراها أقسى من الرقابة السلطويّة، وعندها يخون ليبراليّته إذ يخلطها بموقف محافظ، أو أن يكون ملحقاً بجماعة في مواجهة السلطة، وعندها يخون ليبراليّته بخلطها بموقف شعبويّ. أمّا نظريّاً، وفي أحسن حالاته، فلسوف يجد مرجعه في «ليبراليّة الحرب الباردة» لريمون أرون، أكثر كثيراً ممّا في ليبراليّة «المجالس» ذات الطابع الراديكاليّ لهنه أرنت.
يزداد الأمر سوءاً حين نضيف ما نعرفه جميعاً من ضعف الحامل الاجتماعيّ للّيبراليّة، أي البورجوازيّة، والتي تتراوح عندنا بين «تعيين» رسميّ يصدر عن منصّة السلطة و«تجارة شنطة» يستحيل أن يُعزى إليها دور تاريخيّ، أو من غياب كلّ إجماع وطنيّ، ولو في حدّه الأدنى، إنْ كتعريف لـ«الوطن» أو كتعريف لـ«العدوّ» أو كتعريف لـ«التغيير». وهذا، على عمومه، إنّما يثبّتنا في ما قبل زمن الآيديولوجيا الذي لا تعالجه أيّ آيديولوجيا، ليبراليّة كانت أم غير ليبراليّة. وهنا مصدر التشاؤم التاريخيّ والشعور بأنّ انسداداً كبيراً يقيم في آخر النفق، إن لم يكن في أوّله.
أمّا الحجّة التي تتحكّم بها نزعة كونيّة مبسّطة مفادها أنّ ما يصلح هناك يصلح هنا، فلا تشكّل ردّاً على الحجّة السينيكيّة التي ترى أنّ ما يصلح هناك لا يصلح هنا: في الحجّة الأولى يَلوح شبح «المحافظين الجدد» وتجربتهم في العراق، وفي المرّة الثانية تطغى صورة صدّام حسين.
وأغلب الظنّ أنّ الغائب الكبير الذي قد يفتح الطريق أمام الـ«هناك» كي يصحّ «هنا»، هو دفع مجتمعاتنا إلى الاقتراب من السويّة الآيديولوجيّة (الأوروبيّة)، أي تأسيس شروط الانتقال إلى الديمقراطيّة والليبراليّة عبر كفاح مديد ضدّ العصبيّات والاستبدادات وقضايا المصير على أنواعها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الليبراليّة العربيّة» بوصفها شيئاً يقرب الاستحالة «الليبراليّة العربيّة» بوصفها شيئاً يقرب الاستحالة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon