توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حين يقيم كل هذا القبح وراء الجماليات المُهندَسة

  مصر اليوم -

حين يقيم كل هذا القبح وراء الجماليات المُهندَسة

بقلم - حازم صاغية

من يشاهد عرضاً عسكريّاً للجيش الكوريّ الشماليّ يبهره مزيج الدقّة والانتظام والتناسق والتماثل في حركة الأجساد والوجوه، وهذا من ضمن لوحة مشهديّة أكبر لا تقلّ إبهاراً للساحة العامّة، وللحضور الذي يصفّق في اللحظة نفسها كما لو أنّه يصفّق بيد واحدة، فضلاً عن تفاصيل كألوان الأزياء وتنسيق الزهور... أمّا الديكتاتور المعبود فماثل بالطبع في قلب المشهد كلّه.
هذه الهندسة الجماليّة بالغة الإحكام التي تلازم الأنظمة السلطويّة، وجدت في النازيّة ذروتها وذروة أدلجتها في الوقت عينه.
فهتلر، الرسّام المحبط في شبابه، كان مهووساً بالشكل الفنّيّ، لا سيّما العمارة، وكانت لديه خططه لبناء مدن ألمانيا الجديدة ومبانيها. هكذا وُلد مشروع ألبرت شبير الأوّل، الذي كلّفته به الحكومة النازيّة، واسمه «كاتدرائيّة الضوء»: 152 ضوءاً ينبثق نورها من فوهات مدافع مضادّة للطائرات، وبالنور هذا، الذي يهبط من السماء على المهرجان خالقاً حالة تجمع بين الجماليّة والإرادة العُلويّة، تضاء مهرجانات الحزب في نورمبرغ.
وكان للعمل هذا أن أعجب هتلر؛ إذ من خلاله عثرت الرمزيّات النازيّة على معادلها البصريّ. هكذا مُنح شبير، وهو المهندس المبتدئ، مشاريع كثيرة وسخيّة، فصنع بالكونكريت معبداً دائماً للمهرجانات النازيّة في المدينة نفسها. ولئن كان هتلر، في كتابه «كفاحي»، قد انتقد العمارة الألمانيّة لافتقارها إلى العظمة والنُصبيّة، فقد بنى له شبير مبنى جديداً للمستشاريّة في قلب برلين يضجّ بهاتين النُصبيّة والعظمة. وقد أنجزه قبل انتهاء المهلة المحدّدة بحيث افتُتح يوم عيد ميلاد هتلر في أبريل (نيسان) 1939. وكوفئ شبير بتكليفه تحقيق الحلم الهتلريّ الأكبر: إعادة البناء الكاملة للعاصمة التي ستُسمّى جرمانيا، استعادةً لاسم تلك المقاطعة الرومانيّة الكبيرة والتاريخيّة شمال أوروبا الوسطى. وقد جاء الموديل الذي وضعه شبير لـ«عاصمة العالم المستقبليّة» يثبّت في قلبها محوراً شماليّاً جنوبيّاً تتوِّجُهُ قبّة تبلغ 16 ضعف كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان. لكنْ بعدما دشّن «الزعيم» المشروع العُظاميّ هذا، أوقفه اندلاع الحرب العالميّة. فحين توجّه هتلر إلى باريس المحتلّة، رافقه شبير لتفقّد قوس النصر وبرج إيفل اللذين ستقزّمهما جرمانيا كما ستقزّم الفاتيكان.
في 1942 سُلّم شبير وزارة الإنتاج الحربيّ، فأشرف -بين أعمال أخرى- على تنظيم العمل العبوديّ للملايين من يهود برلين وسجناء الحرب وأبناء البلدان التي غزاها النازيّون.
وكان زمن الصعود النازيّ، أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، زمن انفجار «الميديا» وتأثيرها. ففجأة صار ممكناً أن يُصوَّر كلّ شيء للسينما، وأن يُنقل للآخرين وللعالم. ووجد هذا التطوّر الجديد في هتلر من يلتقط أهميّته إدراكاً منه لقوّة الصورة، ورغبةً في جعل العالم يرى ألمانيا كما يحبّ هو أن تُرى.
هنا كانت المصوّرة والسينمائيّة ليني رِفنستال الذراع الضاربة. فأفلامها الدعائيّة التي كلّفتها بها السلطة النازيّة، كـ«انتصار الإيمان»، و«انتصار الإرادة»، نجحت في أن تموّه دعائيّتَها بفنيّتها. فهي ذهبت بعيداً فيما سمّاه فالتر بنجامين جَمْلَنَة (aestheticization) السياسة، مستخدمةً تقنيّات سينمائيّة محضة في تصوير القوّات النازيّة بدقّة هندسيّة مدهشة. وكان لأفلامها التي شاهدها الملايين في العالم أن ألهمت ألماناً كثيرين بأن يتطوّعوا في الجيش، كما دفعت بعض ذوي الأصول الألمانيّة خارج ألمانيا للعودة إلى الوطن والإسهام في «نهضته». وفي 1936 كُلّفت رِفنستال بصناعة فيلم «أولمبيا» لتصوير الألعاب الأولمبيّة في برلين عامذاك. وكان أحد أهداف الفيلم أن يردّ على ازدياد الاعتراضات في أوروبا والولايات المتّحدة حول معاملة ألمانيا النازيّة لليهود. وبدورها لجأت رِفنستال إلى استخدام الطائرات للتصوير من الجوّ، واستخدمت للمرّة الأولى «لقطات التتبّع» (tracking shots)، مُركّزة على الرياضيّين أجساماً بالغة الصحّيّة، ووجوهاً طافحة بالعزم والسعادة.
لقد ترافقت تلك الألعاب، وللمرّة الأولى، مع تصوير التلفزيون ألعاباً كهذه، وارتبط هذا كلّه بإصرار جوزيف غوبلز على «إظهار قوّة ألمانيا العضليّة للعالم». وقبل عام واحد بالضبط على افتتاح مبنى المستشاريّة في يوم ميلاد هتلر، عُرض الفيلم في يوم ميلاده في أبريل 1938.
وتحوّلت رِفنستال، مع الحرب العالميّة، مراسِلة حربيّة، وفُرزت لها فرقة دعيت «وحدة رِفنستال الخاصّة للأفلام»، كما بدأت العمل على فيلمها «تيفلاند» حيث فُرض على رجال من الغجر وأطفالهم من مساجين معسكري ماكسغلان ومارزهن، أن يمثّلوا بالسخرة.
لقد فاق النظام النازيّ كلّ الأنظمة اهتماماً بالهندسة الجماليّة، وبرسالة القوّة التي تبثّها إلى العالم. فهو الذي أنشأ أوّل «وزارة دعاية» في التاريخ، كما عُرف باهتمامه الخاصّ بأزياء العسكريّين، بحيث تحمل أكبر عدد من الرموز والإيحاءات، من الصليب المعقوف إلى زيّ الـ«إس إس» (فِرق الحماية) بلونها الأسود وبالجمجمة والعظمتين المتصالبتين، وطريقة كتابة الـSSكـ ...
وكان بنجامين من أوائل المثقّفين الكبار الذين استوقفتهم هذه الظاهرة، معتبراً أنّ الفاشيّة، إذ تضع الصورة محلّ الإنجاز، تمنح التعبير للجماهير دون أن تغيّر شيئاً في العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة القائمة، أي أنّها تمنحها الشعور بالقوّة ولا تمنحها القوّة. وللغرض هذا تُقحَم الجماليّات في الحياة السياسيّة فيتعرّض المضمون للإفراغ فيما ينصبّ التركيز على الشكل والشكليّ.
لقد أكملت رِفنستال، بعد سقوط النازيّة، مهمّتها في السودان الذي قصدته للمّرة الأولى عام 1962، لتصوير حياة شعب النوبة الذي «لم تُفسده الحضارة»، فـ«اكتشفت» هناك الجسد الإنساني وأعلت قيمة العضليّ فيه، وذلك من خلال طقوس الوشم والرقص القَبليّ والمصارعة والجنازات. وكانت الأميركيّة سوزان سونتاغ، وفي أحد ألمع نصوصها، بيّنت كيف أنّ رفنستال تحوّل شعباً آخر موضوعاً لها ولجماليّاتها الفاشيّة، محاولةً إيهامنا بأنّها مريضة بحبّ الجمال، وليست صوتاً دعائيّاً للنازيّين.
أمّا شبير فلم يبق الكثير ممّا عمّره. فمبنى المهرجانات الضخم يتآكل على مقربة من موقف للشاحنات، والبيوت التي أنشأها للحرس النازيّ أصبحت مراحيض عامّة، أمّا مبنى المستشاريّة فدمّره السوفيات حين دخلوا برلين.
لقد حضرت، وراء تلك الجماليّات المهندَسة بدقّة فائقة، بشاعات كثيرة: زعيم يقدّم نفسه كنصف إله، وبثٌّ متواصل للرعب في العالم وفي البشر الذين تُهان عقولهم، فيما يوصَفون بـ«أشرف الناس».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين يقيم كل هذا القبح وراء الجماليات المُهندَسة حين يقيم كل هذا القبح وراء الجماليات المُهندَسة



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon