توقيت القاهرة المحلي 20:00:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أبعد من أبو الحسن بني صدر...

  مصر اليوم -

أبعد من أبو الحسن بني صدر

بقلم : حازم صاغية

في باريس، وعن 88 عاماً، توفّي أبو الحسن بني صدر. الرحيل كان صامتاً وبارداً، والراحل أشبه بمجهول.
بني صدر ليس مجهولاً، أو أنّ مجهوليّته ليست بهذه البساطة. لقد كان أوّل رئيس لإيران بعد إعلانها جمهوريّةً، أمّا ما حمله إلى منصبه هذا فلم يكن سوى قربه من آية الله الخمينيّ الذي وصفه بـ «هذا ابني». فهو غادر البلد لاجئاً شابّاً منذ 1964، لكنّ قربه من آية الله و«بُنوّته» له كانا كافيين للتغلّب على كلّ شيء. هكذا نال قرابة 80 بالمئة من أصوات المقترعين في 1980.
رئيس الجمهوريّة الأوّل سريعاً ما وجد نفسه في دائرة الاشتباه والريبة. رجال الدين، وعلى رأسهم محمّد بهشتي، لم يطيقوا هذا العلمانيّ الآتي من فرنسا حيث عاش ودرس ودرّس. انتسابُه إلى أسرة دينيّة نافذة في همدان، والصداقة بين والده البيولوجيّ رجل الدين نصر الله بني صدر ووالده الآيديولوجيّ الخمينيّ لم يشفعا له. تديّنه وورعه الشخصيّان أيضاً لم يخفّفا حدّة اختلافه. ذاك أنّ إيمانه حفّت به عواملُ أخرى «مُلوِّثة»، كتأثّراته الباريسيّة وسنواته الإيرانيّة المبكرة حين كان طالباً مناضلاً في «الجبهة الوطنيّة» التي تعود أصولها إلى محمّد مصدّق. وهو، فوق هذا، لم يكن متحمّساً لحكم رجال الدين، كما راهن على أن يكون النظام الثوريّ مقدّمة لـ «حكم القانون» الذي يفضي إلى ديمقراطيّة بلون إسلاميّ.
معارضة بني صدر استمرارَ الحرب بين العراق وإيران فجّرت الخلاف، وانتهى الأمر بأن أقال «الأبُ» نجلَه الضالّ في أواسط 1981 فعاد مهدورَ الدم من حيث أتى، واستقرّ مجدّداً لاجئاً في باريس.
إذاً، وخلال 17 شهراً فحسب، عاد بني صدر شخصاً مجهولاً بعدما تدرّج رئيسَ جمهوريّة ثمّ خائناً متآمراً. إنّها أقصر الطرق من «قبل الثورة» إلى «بعد الثورة».. كلّ هذا كان يحصل بحركة يد أو رفّة جفن من الخمينيّ. ما من يسائل. ما من يناقش. المسألة بيتيّة بين أب وابنه.
المؤكّد أنّ بني صدر حين التحق بذاك الأب كان على بيّنة من أفكاره المُعتمة ومن شخصه الطاغي. كان يعرف بالتأكيد أنّه هو مَن أسّس نظريّة ولاية الفقيه وتحكّم رجال الدين، وكان يعرف رأيه بالمرأة وبالديمقراطيّة وبالإصلاح الزراعيّ... وفي هذه المواقف كلّها يستحيل العثور على بقعة ضوء واحدة.
هنا ثمّة ما يتجاوز تجربة بني صدر إلى مثقّفين كثيرين افتُتنوا بفكرة بعينها أو بقائد بعينه جعلوه أباً لهم، فغضّوا النظر عن أمور كثيرة لينتهي بهم الأمر منبوذين أو مسجونين أو مقتولين. أمّا الذين نجوا من تلك الأقدار فقضوا الشطر الأخير من حياتهم يصفون مرارة التجربة أو خدَر الوعي الذي أصابهم أو تعرّضهم لخديعة ما... وفي الحالات جميعاً، بدا أن الأوضاع التي ساهم هؤلاء في إقامتها أسوأ من الأوضاع التي ساهموا في إطاحتها. يصحّ ذلك بقياس مصالح الشعب والوطن، ولكنْ خصوصاً بقياس أحوالهم الشخصيّة ذاتها.
ففي تجربة بني صدر ملامح نراها على نحو أو آخر في تجارب إيرانيّين آخرين كابراهيم يزدي أو صادق قطب زادة، أو مثقّفين روس وغربيّين، وخصوصاً فرنسيّين، افتُتنوا بستالين، أو مثقّفين عرب، كميشيل عفلق أو منيف الرزّاز أو حسن الترابي ممّن وجدوا أنفسهم يبشّرون بقياديّة صدّام حسين أو برؤيويّة حافظ الأسد أو عمر البشير.
وقد يرى البعض في الانتهازيّة وركوب الموجات ما يفسّر الظاهرة، إلاّ أنّ الأمر، في أغلب الظنّ، أعقد وأوسع نطاقاً، وأشدّ اتّصالاً بعالم تنعدم فيه الديمقراطيّة والسياسة فيما تطفح الأساطير والوعي الرؤيويّ الخارق.
فهناك قوّة الأسطورة حين تستولي على عقل المثقّف، وهو تعريفاً صانع الأساطير ومهندسُها. هذه الأسطورة توضّب قائداً أسطوريّاً يلازمها، فيسحر المثقّف ويخدّره، إلى حين، كما كان أمر بني صدر مع الخميني، أو إلى الأبد، كما كان حال غوبلز مع هتلر. وبموجب الأسطورة، يتراءى للمثقّف المعزول أنّ الزعيم سوف يضعه في قلب الجماهير العريضة ويعيّنه صانعاً للتاريخ، إلاّ أنّ الزعيم لا يلبث أن يسحبه من الموقعين ويرميه في الزنزانة أو يُهديه للمقصلة.
هناك أيضاً الخديعة التي تمارسها الثقافة على المثقّف، فتسلّحه بما يظنّه الصواب المطلق والمنسجم، أو الفضيلة التي ينبغي فرضها بما ينشئ ديكتاتوريّة الفضيلة. هكذا يروح يتوهّم إعادة تأسيس التاريخ، مرّة بعد مرّة، من صفر، فيما يكون هو وحده الرقم الذي يضفي على الفراغ المعنى. والأشباح والأخْيِلة هذه غالباً ما تلد نظريّات في العمل السياسيّ تغلّب دائماً «التناقض الرئيسيّ» وتنسى كلّ أمر آخر بما في ذلك أفكار القائد المريضة وشخصه المستبدّ. فالمهمّ، في حالة بني صدر، إطاحة الشاه وإزالة النفوذ الأميركيّ وليكن ما يكون. وبعض «ما يكون» نهاية بني صدر كائناً مجهولاً في باريس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبعد من أبو الحسن بني صدر أبعد من أبو الحسن بني صدر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon