توقيت القاهرة المحلي 20:45:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المواطن المحترم في جمهوريّة قليلة الاحترام

  مصر اليوم -

المواطن المحترم في جمهوريّة قليلة الاحترام

بقلم : حازم صاغية

نبدأ من إيطاليا. من الظاهرة التي لا بدّ من استعادتها عند كلّ حديث عن القضاة:
حين انتهت الحرب الباردة وأصيبت الأحزاب التقليديّة وآيديولوجيّاتها بانهيارات متفاوتة، انفجرت أيضاً الروابط المدنيّة والتعاونيّات الاقتصاديّة والمنظّمات غير الحكوميّة. السياسيّون انكشفوا كجماعة ينخرها الفساد. أحزابهم باشرت سحبهم من التداول العامّ. روما بدت، بين 1992 و1994، سفينة وسط مياه مضطربة.
المهمّة التي لم تجد أبطالها، في ظلّ التعطّل السياسيّ، تصدّى لها القضاة الذين عُرفوا بـ «الأيدي النظيفة» (ماني بولايت). لقد استهدفوا سياسيّين ورجال أعمال وإداريّين تشكّلت منهم «تانجنتو بولي»، أو «مدينة الرشوة».
وزارة الماليّة الإيطاليّة قدّرت آنذاك أنّ الفساد والاحتيال الضريبيّ كبّدا الخزينة 90 مليار دولار. أخطر من هذا هبوط تلك الممارسات إلى المستويات السياسيّة والإداريّة الأدنى بحيث طالت رجال شرطة ومعلّمي مدارس وسواهم. المجتمع بأسره بدا مهدّداً بسُمّ التلوّث القاتل.
زاد في فظاعة الظاهرة التي استهدفتها «الأيدي النظيفة» تشابك الفساد والجريمة المنظّمة. «التائبون» من مساجين المافيا كشفوا باعترافاتهم أنّ أقطاباً أساسيّين في حزبي المسيحيّ الديمقراطيّ والاشتراكيّ متعاونون مع الجماعات المافياويّة. هذا التشابك أكسب مهمّة القضاة أبعاداً سياسيّة ووطنيّة وأخلاقيّة حادّة، فظهر من يؤرّخ لتلك اللحظة الإيطاليّة بأنّها انتقال من «ديمقراطيّة الأحزاب» إلى «ديمقراطيّة القضاة» كمحطّة إلزاميّة في الطريق إلى «ديمقراطيّة المواطنين».
«الأيدي النظيفة» لتطهير إيطاليا طالت، بين من طالتهم، سياسيّاً في حجم المسيحيّ الديمقراطيّ جوليو أندريوتّي الذي سبق أن شغل رئاسة الحكومة سبع مرّات. محاكمته ساهمت في نهاية حزبه الذي حكم البلد منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. التطهير القضائيّ طال أيضاً رئيس حكومة سابقاً آخر هو بتّينو كراكسي الذي هرب إلى تونس حيث توفّي. حزبه الاشتراكيّ حلّ نفسه وثلاثة من نوّابه انتحروا.
قرابة ستة آلاف شخصيّة سياسيّة وإداريّة سيقوا إلى المحاكم ما بين 1992 و1994، في عدادهم ربع أعضاء مجلس الشيوخ ومعهم وزراء ونوّاب ورؤساء بلديّات وضبّاط ومديرون...
ما حدث في إيطاليا كانت له أصداؤه في بلدان أخرى. مثلاً، في فرنسا، صيف 1994، أمر القاضي المختصّ بمكافحة الفساد السياسيّ إريك هالفن، باعتقال جان كلود ميري، المسؤول العقاريّ السابق في أمانة العاصمة، وممثّل حزب «التجمّع من أجل الجمهوريّة» الديغوليّ – الشيراكيّ. أُدخل ميري السجن عدّة أشهر، ثمّ أخرجه مرضا القلب والسكّريّ، لكنّ اسمه بات يرادف اللعنة، يهدّده الإفلاس كما تهدّده زوجته بالطلاق.
إذاً ليس تعبير «سلطة القضاء» تعبيراً عديم المعنى في بلدان تقول إنّ نظامها يعتمد فصل السلطات. لكنْ لا في إيطاليا ولا في فرنسا، يوجد مسؤول أمنيّ لـ «حزب الله» يهدّد القاضي بـ «القبْع»، أو سياسيّو طوائف يحتمون من القضاء بمراجعهم الدينيّة والمذهبيّة. هذا بالضبط ما حصل ويحصل للقاضي اللبنانيّ طارق البيطار بهدف ردعه عن التحقيق في مأساة المرفأ التي يُمنع عن اللبنانيّين أن يعرفوا من الذي تسبّب فيها. فلتكن قضاء وقدراً.
«مش عارفين حالكن مع مين عمتحكو»، هذا هو عنوان «النظريّة» التي يعتصم بها سياسيّو الطوائف ممّن يرفضون أيّة سلطة تعلو على سلطتهم التي حالت ولا تزال تحول دون قيام الدولة، أيّة دولة.
والحال أنّنا، في لبنان، نستطيع أن نتحدّث عن أناركيّة الطوائف (أو فوضويّتها، وفق التعريب الشائع). والأناركيّة مفادها أنّ ما من حاجة إلى الدولة أصلاً. إنّها مرفوضة عند ثوريّي اليسار الأناركيّ بسبب رأسماليّتها، وهي مرفوضة عند ثوريّي اليمين الأناركيّ لأنّها تعيق الرأسماليّة وتكبحها. من ميخائيل باكونين يساراً إلى النيو ليبراليّين المتطرّفين موراي روثبارد وديفيد فريدمان يميناً، تُصوّرُ الدولة على أنّها العدوّ والقامع.
لكنّ أحد أهمّ الفوارق بين هؤلاء وأناركيّي الطوائف اللبنانيّة أنّ الأوّلين، بيسارهم ويمينهم، تركوا وراءهم مكتبة تشرح رفضهم للدولة وتعرض بدائلهم عنها. أناركيّونا المحلّيّون توقّف إبداعهم عند تلك العبارة إيّاها: «مش عارفين حالكن مع مين عمتحكو».
لسان حال القاضي بيطار يقول: عارفين حالنا عمنحكي معكن. نريد أن نسائلكم في مسؤوليّة أشخاصكم عن كارثة أودت بالعشرات وشرّدت الآلاف ودمّرت خُمس المدينة العاصمة. في هذا، ينوب القاضي الشجاع عن دولة ضربها العفن الذي لم ينجُ منه قضاؤها نفسه. لكنّه، إلى ذلك، ينوب عن مجتمع بات مهيض الجناح، لا سيّما وقد هُزمت ثورته وتقلّصت بدائله المتاحة وصُودر صوته.
وكيف يتجرّأ قاض لم يأتِ من أسرة أعيان، ولا احتمى بسلاح «حزب الله»، على أعيان يحتمي نظامهم بذاك السلاح؟ أليس في هذا تجرّؤ على المستحيل؟
طارق البيطار، الذي يراد «قَبْعه» و«إزاحته» و«استبداله»، آخر المواطنين المحترمين في جمهوريّة جُعلت قليلة الاحترام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المواطن المحترم في جمهوريّة قليلة الاحترام المواطن المحترم في جمهوريّة قليلة الاحترام



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon