توقيت القاهرة المحلي 09:12:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كاينز... أو الوعي المتفاوت!

  مصر اليوم -

كاينز أو الوعي المتفاوت

بقلم - حازم صاغية

في 1919 وقف الاقتصاديّ البريطانيّ جون ماينرد كاينز، موقفاً شجاعاً وحكيماً في آن. فبصفته عضواً في الوفد البريطانيّ المفاوض في فرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، كره التنازلات التي فرضها الحلفاء على ألمانيا، وحجم التعويضات المطلوبة التي ستُثقل على مدنيّي ألمانيا الأبرياء. هكذا استقال من الوفد ومن عمله الاستشاريّ في وزارة الخزانة التي مثّلها في المفاوضات. وهو سريعاً ما كتب «الآثار الاقتصاديّة للسلام»، مُظهراً أنّ الحرب دمّرت أساسيّات الاقتصاد الأوروبيّ بينما لم تفعل معاهدة فرساي شيئاً لإصلاحه، ومجادلاً بأنّ على ألمانيا ألّا تستجيب للعقوبات المفروضة، ولائماً الدول الكبرى على وقوفها وراء اتّفاقيّة غير أخلاقيّة، فضلاً عن توقّعه نتائج مُرّة للقسوة على ألمانيا. وإذ أزفت الثلاثينات، بدا واضحاً كم كان موقفه صائباً. فالصعود النازيّ، كما نعلم، كثيراً ما تغذّى على المذلّة والضائقة اللتين أنجبتهما فرساي.
وفي الثلاثينات نفسها، استوت الكاينزيّة مذهباً في المعالجة الاقتصاديّة والمقاربة الأخلاقيّة، فضلاً عن انهجاسها بامتصاص التطرّف. تمّ ذلك مع صدور كتابه الأهمّ «النظريّة العامّة للعمالة والفائدة والمال» (1936)، الذي أرسى أسس النظام الاقتصاديّ الغربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، أي مع وفاة كاينز في 1946 وبعدها. فـ«الثورة الكاينزيّة» كما سمّيت، صانعةً أحد أهمّ اقتصاديّي التاريخ، رأت أنّ من مسؤوليّات الحكومة ضمان العمالة الكاملة، أو ما يقاربها، وهو ما ينجزه تنشيط الطلب كردّ على الانكماش، أي الإنفاق العامّ في البنى التحتيّة والخدمات الاجتماعيّة (بناء طرق وجسور ومستشفيات إلخ...).
والكتاب أعاد التفكير في مسألة البطالة، بهدف إنتاج حلول جديدة لأزمات الثلاثينات، وللرأسماليّة عموماً.
فالاقتصاد الكلاسيكيّ قدّم ثلاثة أسباب للبطالة: تغيير العاملين والعمّال أشغالهم، واختيار الأفراد ألّا يعملوا بالاستفادة من تقديمات الدولة، وارتفاع الأجور بما لا يحتمله أرباب العمل. وفي الموديل الكلاسيكيّ يُفترض بالسوق الحرّة أن تصحّح هذا العامل الثالث آليّاً، بحيث يتساوى عفويّاً عرض العمل والطلب عليه، بلوغاً إلى العمالة الكاملة. لكنّ كاينز خالف النظريّات هذه: ففي الثلاثينات كان الملايين بلا عمل، ما يعطّل التفسير بالعوامل الثلاثة أعلاه. أمّا السبب، عنده، فليس تغيير العمل ولا رفض العمل والكسل أو تدخّل النقابات، خصوصاً أنّ الاقتصاد يومذاك لا يخلق فرص عمل أصلاً، فيما ارتفاع البطالة خلال الكساد الكبير يقلّص نفوذ النقابات. وأمّا الرهان على التساوي العفويّ بين العرض والطلب فيستغرق وقتاً طويلاً لن يبقى بعده، بين الأحياء الحاليّين، من يستفيد منه.
فمشكلة البطالة تكمن، إذن، في نقص الطلب أو انعدامه، والمطلوب بالتالي تدخّلٌ يكسر دورة الركود ويستعيد الازدهار. وإذا كانت الحكومات، إبّان التراجع، تتوجّه تقليديّاً إلى العرض، معوّلةً على أنّه ما يشجّع النموّ ويخلق العمالة، فقد رأى كاينز عدم جدوى العرض في ظلّ طلب بالغ الانخفاض. لذا ينبغي منح الأولويّة للطلب الذي تخلقه الدولة بمشاريعها، عبر الاقتراض لتمويل مشاريع عامّة واستثمارات في البُنى التحتيّة. وفي نقده، لم يغفل عن الشبه بين السلوك التقليديّ للحكومات والعقليّة الأبرشيّة الضيّقة للعائلة التي تميل إلى التقتير عند تبخّر المداخيل، مميّزاً بين إدارة الدول وإدارة البيوت.
أمّا السؤال عمّن ينبغي أن يسدّد القروض، فجوابه أنّ خلق الوظائف عبر المشاريع الكبرى إنّما يوفّر المال الذي كانت الحكومات ستنفقه معوناتٍ للعاطلين عن العمل، كما أنّ ازدياد عدد العاملين سيوسّع الإنفاق ويغذّي الضرائب، وإذ يتحسّن «البيزنس» في هذه الغضون، تتوافر العائدات التي تسدّد الدَّين.
فالرأسماليّة قد لا تكون حميدة، كما رأى آدم سميث، إلا أنّها ضروريّة بقدر ما هو ضروريّ كبح جماحها. وكاينز، برفضه المزدوج للشيوعيّة ولإطلاق يد السوق، كان متفائلاً بقدرة الحكومات، عبر الإنفاق العامّ والتدخّل التنظيميّ (regulation) على تذليل الأمراض التي تنجم عن الرأسماليّة، والرهان تالياً على عصر غير مسبوق في ثرائه.
وتفاؤله هذا بدا أوضح ما يكون في مقالة شهيرة كتبها عام 1930، في ذروة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وعنونَها «الإمكانات الاقتصاديّة لأجل أحفادنا». فبنبرة شبه خلاصيّة رأى أنّ معظم الأزمات قابل للتذليل، بحيث يحلّ عصر يغدو معه التحدّي الأعظم للكائنات الإنسانيّة: كيف نملأ أوقات فراغنا في ظلّ بحبوحة على نطاق جماهيريّ؟
إبّان الحرب العالميّة الثانية، قاد كاينز الوفد البريطانيّ إلى مؤتمر برِتون وودز، حيث عالجت الدول المتحالفة اقتصادات ما بعد الحرب. وهو، مجدّداً، كان متفائلاً بقيام نظام كونيّ لتنظيم الاقتصاد، مطالباً الدول، خدمةً للتجارة العالميّة، بتأسيس مصرف مركزيّ عالميّ وعملة سمّاها «بانكور». ولئن لم يؤخذ بالاقتراحات هذه، فإنّ اقتراحاته الأخرى أسهمت في تأسيس البنك الدوليّ وصندوق النقد لتشجيع التجارة الدوليّة.
والحال أنّ الكاينزيّة وأفكار «دولة الرفاه» سادت معظم الاقتصادات الغربيّة بين نهاية الحرب العالميّة الثانية وأواسط السبعينات، حين أسقطها ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف، لتباشر النيوليبراليّة، بعد سنوات قليلة، صعودها الريغانيّ والثاتشريّ. لكنْ منذ أزمة 2008، وفي أيّامنا هذه تحديداً، يعاد الاعتبار للكاينزيّة مقروناً بالتساؤل عن صعوبات العودة إليها.
في الأحوال كافّة، فـ«اللورد كاينز»، وعلى عكس ما يُظنّ، لم ينتسب إلى حزب العمّال، بل عُرف بتأييده الحزب الليبراليّ. وهو، وإن غازل لاحقاً تيّارات عمّاليّة، حافظ على مواقف متعجرفة من النقابات، كارهاً كلّ حشد جماهيريّ بوصفه قطيعاً.
فمن عائلة ثريّة جاء كاينز، ودرس في مدارس النخبة وجامعاتها، كإيتون وكمبردج، وعلى مدى حياته ظلّ جزءاً من «الإستابلِشمنت» البريطانيّة. وبوصفه ذا اهتمامات أدبيّة وفنّيّة، ربطته صداقات ببعض ألمع المبدعين، وفي عدادهم فرجينيا ولف، كما انتمى إلى جماعة «بلومزبري» الليبراليّة للكتّاب والفنّانين والمثقّفين، التي قادت الهجوم، في العقدين الأولين من القرن الماضي، على القيم الفيكتوريّة في الجنس والاجتماع.
لكنْ ما بين انتقائيّة أفكاره ومحدوديّة زمنه ومعارفه، ناصرَ كاينز خرافة «علم تحسين النسل» (eugenics)، فكانت هذه شهادة أخرى على المسار المتفاوت للبشر. أوَلسنا جميعنا، في وعينا، متفاوتين؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كاينز أو الوعي المتفاوت كاينز أو الوعي المتفاوت



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon