توقيت القاهرة المحلي 03:23:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تعال إلى حيث التشاؤم: تعال إلى شوبنهاور

  مصر اليوم -

تعال إلى حيث التشاؤم تعال إلى شوبنهاور

بقلم - حازم صاغية

ماذا لو صادف واحدُنا وصفاً للحياة والعالم ينتهي بلائحة من الوصايا والنصائح في التعامل معهما تقول فيما تقول:
هذا العالم الذي نعيش فيه مكان بائس جدّاً ومثير للأحزان. أمّا الحياة، كلّ حياة، فهي دائماً تراجيديا، وإنّ تبدّت لنا، متى دخلنا في تفاصيلها، كوميديا. ونحن البشر لا مفرّ لنا من بؤسها وألمها؛ إذ حتّى لو استطعنا تفادي ذلك كان الضجر في انتظارنا بالمرصاد.
وما دامت الحياة بلا معنى، وكلّ شيء على الأرض ينتظر فناءه، فلنحاول وقف لهاثنا وراء الأمور المادّيّة والتوسّع في الإنفاق والبحث عن الترقّي، مقلّلين رغباتنا الطبيعيّة إلى الحدّ الأدنى، ومُضحّين بالمتعة كي نتجنّب الألم، ولننخرط أكثر في الممارسات الروحيّة والتفكّر في معاني الحياة والموت. ذاك أنّ علينا أن نتصالح مع فكرة الموت ومع حقيقة أن كلّ شيء يموت. أمّا الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله فأن نثمّن الجمال والمودّة العابرين في صلتنا بما ومن نحبّ، شرط ألا نتعلّق كثيراً بوجودهم فلا تكبر صدمتنا برحيلهم.
ذاك أنّ السعادة سلبيّة، لا إيجابيّة، وهي، في أحسن أحوالها، لا تُقاس بمتعها وأفراحها، بل بمدى ما توفّره من ابتعاد عن الألم. فلنعمل على خفض توقّعاتنا بلا هوادة؛ إذ الطريقة الأفضل لبلوغ السعادة هي أن نكفّ عن طلبها مُكتفين بمحاولة تجنّب التعاسة. وغير بعيد عمّا قاله الرواقيّون القدامى، يُستحسن توقّع الأسوأ دوماً كي نقتنع بما يلمّ بنا من مصائب، فإذا توقّعنا المصائب أمكننا مواجهة المصيبة التي تداهمنا وكأنّها مجرّد حدث بسيط بقياس ما توقّعنا. وفي هذه الحدود المتواضعة، لا توجد السعادة إلا في نفس صاحبها، فإذا بدا صعباً إيجاد السعادة في النفس، فسوف يكون من المستحيل إيجادها في الآخرين. أمّا الشبّان فعليهم أن يتعلّموا اكتشاف الوحدة في أبكر وقت ممكن. فالوحدة واقع حتميّ كلّما عجّل المرء في اكتشافه عجّل في تحرير نفسه من خوف الوحدة. وأمّا الذين ينوون تيئيسنا، فلنواجههم بأن نكون أصلاً يائسين، ويائسين جدّاً، بحيث نحبط مساعيهم.
... في هذه الأيّام الكئيبة حيث جائحة «كورونا» وحرب أوكرانيا والتردّي الاقتصاديّ والهجرات المليونيّة والانهيارات الوطنيّة لبلداننا...، يضعف المرء أمام جاذبيّة أرثر شوبنهاور، الفيلسوف الألمانيّ الذي عاش في القرن التاسع عشر وزوّدنا تلك الوصايا والنصائح أعلاه، كما زوّدنا العشرات غيرها التي تنتمي إلى الطينة نفسها. والحال أنّ شوبنهاور - الذي عُدّ أحد آباء الفلسفة الوجوديّة، وخصوصاً فرعها الأشدّ تشاؤماً، وترك تأثيره على أسماء من عيار تولستوي وفاغنر ونيتشه وفرويد وكامو وتوماس مان - لم يكن متشائماً بظرف، أو بوضع، أو ببلد. لقد تشاءم بالحياة نفسها، فلسفيّاً وتاريخيّاً ووجوديّاً، ولم يكن تشاؤمه بالطبع عديم الاستناد إلى أساس نظريّ صلب.
فقد رأى بعض دارسيه أنّه أقرب إلى معلّق مشاغب على إيمانويل كانط الذي لم يقتصد في احترامه ومديحه. ذاك أنّ كانط ذهب إلى أنّنا لا نستطيع الوصول إلى الأشياء المقيمة في عالم يتعدّى الظواهر (nomenal)، أي عالم الأشياء بذاتها، أمّا ما نراه ونختبره فعالم آخر، ظاهراتيّ (phenomenal)، ينتشر على مدى المكان والزمان ويستطيع عقلنا أن يتعقّله وينظّمه.
هكذا ساجل شوبنهاور الكانطيّة، معتبراً أنّ العالم الذي نراه لا نراه موضوعيّاً، بل هو تمثيل للعالم بمعنى (representation) صنعته عقولنا. فما من موضوع إذاً دون ذات، فيما الأشياء بذاتها مجرّد تصوّرات وصور. فالعالم بالتالي واحد وليس عالمين، وإن كان مزدوجاً.
وهو رأى ما يعزّز نظريّته في «الأوبانيشاد»، التي كانت قد تُرجمت للتوّ، وهي النصّ الذي يُعتبر أساس تأمّلات الهندوسيّة وروحانيّاتها. فـ«المايا» يعادل العالم الظاهراتيّ عند كانط، فيما «البراهمان» هو الأشياء المقيمة في خفاء ذاتها الجوهريّة. لكنّ الفاهم والمفهوم شيء واحد في «الأوبانيشاد»، كما الذات والموضوع عنده.
فعالم شوبنهاور، الواحد المزدوج، «إرادة وتمثيل»، والشيء بذاته إنّما هو الإرادة أو ذاك الدافع اللاعقلانيّ الذي يشكّل جوهر العالم. فالإرادة هي القوّة الدافعة لكلّ شيء، عضويّاً أم غير عضويّ، حيّاً أو ميّتاً. لكنّ الإرادة تلك سبب آلامنا؛ إذ هي محرّك وجودنا ورغباتنا. فالرغبات التي تبعثها فينا تقود أفعالنا فلا نستطيع الفرار منها، طالما نحن واقعون في فخّ السعي إليها، حتّى إنّ الانتحار، كنفيٍ للحياة، لا يعدو كونه طلباً قويّاً عليها لم يُعطَ للطالب.
والإرادة تعمل في قلب وجودنا كغريزة عنيدة ومثابرة وجبّارة لا تكلّ، أمّا العالم فليس سوى مرآة لها أو تمثيل خلقته عقولنا، وأجسادنا لا تعدو كونها تجلّياً لها، أو أنّ أجسادنا وإرادتنا شيء واحد قُدّم إلينا بطريقتين مختلفتين: الأجساد على شكل تمثيل، والإرادة كتجربة داخليّة مباشرة. إنّها ليست من نتائج العالم، بل العالم من نتائجها، وهي ليست، كما يقول المؤمنون، تجلّياً لله، بل هو تجلٍّ لها بوصفها اندفاعة عمياء، لا هي مقدّسة ولا إحسانيّة، بل قوّة شيطانيّة. إنّها، وفق صيغة أخرى من صيغ شوبنهاور، طبيعة الإنسان الداخليّة الحقّة، غير الموعاة، وغير القابلة للتخريب. وبكلمة باتت تشبه الشعار: إنّ «العالم هو تمثيلي أنا».
لقد انتُقد شوبنهاور بوصفه لاعقلانيّاً، وتعبيراً عن انتكاسة في التنوير، كما بوصفه ريفيّاً أبرشيّاً، ومتأثّراً بالصوفيّة، ومعادياً للحداثة، وما قبل رأسماليّ. وهي في أغلب الظنّ انتقادات مصيبة. لكنْ ربّما كان النقد الأشمل لعموم هذا النهج ولما قد يماثله في مقاربة الحياة ما كتبته هنه أرنت في كتابها «الشرط الإنسانيّ». فعالمة السياسة الألمانيّة الأميركيّة طرحت مفهوم «الوِلَاديّة» (natality)، حيث المهمّ الولادات لا الوفيَات والنهايات. فكلّ ولادة بداية جديدة، يُشقّ بها طريق جديد وفعل جديد في هذا العالم.
صدقت هنه أرنت وكذب أرثر شوبنهاور.
أمّا الأزمنة الكئيبة التي نعيشها فسبب إضافيّ كي نفكّر في البدايات ولا نسير في ركابه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تعال إلى حيث التشاؤم تعال إلى شوبنهاور تعال إلى حيث التشاؤم تعال إلى شوبنهاور



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 16:35 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الجيش الإسرائيلي يتخبّط في "أزمة حادة"
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يتخبّط في أزمة حادة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon