توقيت القاهرة المحلي 14:42:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اللحظتان الكارثيّتان في سياسات التدخّل الأميركيّة

  مصر اليوم -

اللحظتان الكارثيّتان في سياسات التدخّل الأميركيّة

بقلم : حازم صاغية

حين شنّت الولايات المتّحدة حرب العراق، وكانت سبقتها حرب أفغانستان بعامين، أرفقتْها بفائض آيديولوجيّ وبنقص عسكريّ. القوّات المقاتلة التي توجّهت إلى بغداد كانت أقلّ وأصغر ممّا تتطلّبه مهمّات القتال. التحالف الذي بناه لهذا الغرض جورج دبليو بوش كان هزيلاً جدّاً بقياس التحالف الجبّار الذي بناه والده جورج بوش لإخراج الجيش العراقيّ من الكويت. لماذا ضعف الاكتراث هذا؟ الجواب في فائض التفاؤل الآيديولوجيّ: «صدّام حسين مجرّد قشرة على سطح المجتمع العراقيّ الذي لا يريد إلاّ الديمقراطيّة. ما إن ندخل إلى العراق حتّى يغمرنا العراقيّون بالزهر والأرزّ. هناك سوف يتكرّر ما حصل في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية حين انهار النظامان الفاشيّان وقامت الديمقراطيّة برعاية وهندسة أميركيّتين. هناك سوف يتكرّر ما حصل في أوروبا الوسطى والشرقيّة بعد الحرب الباردة حين راحت البُلدان، ومن دون أيّ قتال، تدخل في الديمقراطيّة أفواجاً. هناك سوف نبرهن للعالم أنّ القيم والمصالح يمكنها، في ظلّ «إمبرياليّة إنسانيّة»، أن تتكامل. سيكون العراق مسرحاً لديمقراطيّة لن تلبث أن تغدو نموذجاً لشعوب الشرق الأوسط. هكذا نودّع، وإلى الأبد، الإرهاب الذي لا يُنعشه إلاّ الاستبداد».
الحجج والنظريّات هذه استُنفرت كلّها وكانت تستعجل الذهاب إلى بغداد على نحو يجعل أيّ تحفّظ يبدو كلاماً مشبوهاً. الرحلة آمنة جدّاً. تعالوا، أيّها الأوروبيّون، وشاركونا المغامرة المضمونة.
أمّا الحديث عن طوائف العراق وإثنيّاته ونزاعات التاريخ العراقيّ الحديث فلم يُرِد أن يسمعه أحد في واشنطن. الحديث عن مدى استعداد المنطقة، بحكّامها وشعوبها، للتعايش مع تطوّر كهذا كان مصيرُه التجاهلَ نفسه. الحديث عن أنّ سنوات الحصار التي سبقت الحرب دمّرت الطبقة الوسطى العراقيّة التي تتطلّبها الديمقراطيّة بدا أيضاً غير مُستحبّ.
الجميع نظروا بعين واحدة وأغلقوا الأخرى. أمّا حين كان الإصرار على أداء الرحلة البغداديّة يصطدم بقلّة البراهين فكان يُستنجَد بالكذب. كذبة كولن باول في مجلس الأمن، عن سلاح الدمار الشامل، دخلت معاجم الأكاذيب التاريخيّة.
في وقت لاحق، تبيّن أنّ النيّة في بناء النموذج الجديد في العراق سبقت جريمة 11 أيلول/ سبتمبر نفسها. الحماسة كانت تسابق الحماسة، والمتحمّسون من ثوريّي «المحافظين الجدد» تعهّدوا أنّ التاريخ، الموضوع في جيوبهم، لن يخذلهم أبداً.
سيناريو التفاؤل التاريخيّ الساذج لم تُكتب له الحياة. الطوائف والإثنيّات كشّرت بسرعة عن أنيابها. المقاومة صارت مادّة التنافس والمزايدة بين متطرّفين سنّة ومتطرّفين شيعة. بعض الجوار لاذ بالصمت والتفرّج، فيما لاذ بعضه بإرسال العبوات ودعم الإرهابيّين. إيران بدت الطرف الذي كسب الحرب.
هكذا، وفي غضون أسابيع، بدأت الولايات المتّحدة تنتقل من الحرب لبناء الأمّة وإقامة الديمقراطيّة إلى الحرب على الإرهاب. وسريعاً ما صار العراقيّون يُعامَلون بالقسوة التي تُمارَس على كائن ميؤوس من إصلاحه. سجنا أبو غريب وبوكا باتا نُصبي المرحلة الجديدة، وهذا قبل الاتّكال على طائرات الدرون العمياء.
العراقيّون الذين رُسموا قبلاً بوصفهم أكثر الشعوب عشقاً للديمقراطيّة وانتظاراً لها باتوا يُرسمون بوصفهم أكثر الشعوب احتضاناً لإرهاب متأصّل في طباعهم. ومثلما استدعت النظرة الأولى تسريع الدخول، صارت النظرة الثانية تستدعي تسريع الخروج، خصوصاً أنّ الرأي العامّ الأميركيّ يلحّ، هو الآخر، في طلب المغادرة. هذه الوجهة أخذت أشكالاً كثيرة، لكنّ شكلها الأصفى بالتأكيد يبقى الانسحاب الذي شهدته أفغانستان قبل أيّام.
لقد أدّى هذا التفكير الرغبويّ دخولاً وخروجاً إلى التأرجح الدائم بين أمْثَلة الشعوب وبين العنصريّة حيالها. الأمْثَلة يواكبها مستشارون عرب «يمينيّون» متفائلون بقدرة أميركا على إقامة الديمقراطيّة وإحقاق الحقّ وفعل الخير، وهم يبرّرون كلّ قسوة على الطريق المفضية إلى جنّة حتميّة. شعار هؤلاء: ادخلوا وتدخّلوا في أسرع وقت ممكن وافعلوا كلّ ما يمكن فعله.
أمّا عنصريّة الطور الثاني فيرفدها، من موقع الضدّ، عرب «يساريّون» و«ما بعد كولونياليّين» يرون أنّ شرور المجتمعات كلّها من صنع أميركا حصراً، وأنّ الشرّ أمّ السلع الأميركيّة. شعار هؤلاء: اخرجوا وانكفئوا في أسرع وقت ممكن وبكلّ ما أوتيتم من قوّة، وحين تخرجون ينقشع الخير العميم الذي تطفح به شعوبنا. بين هذين الصوتين لا يحلّ سوى صمت الشعوب والنُخَب الذي يقطعه، بين الفينة والأخرى، ضجيج صاخب. وهما صمت وضجيج بارعان في تضليل السامع الغريب بعد تضليل النفس العميقة.
«اهجموا كيفما كان»، صرخة الجمهوريّين التي لا تلبث أن تليها «اخرجوا كيفما كان»، صرخة الديمقراطيّين. كثير من التفاؤل في الحالة الأولى، وكثير من التشاؤم في الحالة الثانية، لكنّ الباحث عمّن يشبه غِرترود بِلّ أو فرِيَا ستارك، وعمّن يقول الكلام الصعب والمعقّد والعارف، وعمّا يقع بين الهجوم والانسحاب من رماديّ السياسة والدرس والتفاوض والمناورة واللعب على التناقضات فلن يجد إلاّ القليل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللحظتان الكارثيّتان في سياسات التدخّل الأميركيّة اللحظتان الكارثيّتان في سياسات التدخّل الأميركيّة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon