توقيت القاهرة المحلي 04:26:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

على هامش «المحاولة الانقلابيّة» في ألمانيا

  مصر اليوم -

على هامش «المحاولة الانقلابيّة» في ألمانيا

بقلم - حازم صاغية

هناك أحداث سخيفة وبلهاء، لكنّها تخبّئ فيها ظاهرات مهمّة أو احتمالات مقلقة. أحداث كهذه قد تقدّم تلك الظاهرات على نحو مُشوّه أو مبتور، لا، بل قد تُجهضها أحياناً، إلاّ أنّها تكشف عن وجودها الكامن، وربّما عن خطرها أيضاً.
محاولة الانقلاب الأخيرة في ألمانيا تندرج في تلك الأحداث. ألا يثير تعبير «انقلاب في ألمانيا»، أو في أيّ بلد أوروبيّ غربيّ، معاني وانطباعات أقرب إلى الهذيان تبعاً للتناقض الداخليّ في التعبير نفسه؟
معطيات المحاولة الانقلابيّة كما نقلتها وسائل الإعلام تشبه كثيراً أفعال الجماعات اليمينيّة المصابة بالجنون: تغيير ألمانيا أنيطَ بـ25 شخصاً من يمينيّين متطرّفين وعسكريّين متقاعدين ورموز سابقين في «حزب البديل لألمانيا». هؤلاء خطّطوا لاقتحام مبنى البرلمان (الرايخستاغ) والاستيلاء على السلطة قبل أن يُعتقلوا. التأثّر واضح باقتحام مبنى الكابيتول في الولايات المتّحدة مع الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة.
نموذج هؤلاء المتآمرين هو ألمانيا الإمبراطوريّة لما قبل 1871. أحد تنظيماتهم اسمه «مواطنو الرايخ». أبرز وجوههم أرستقراطيّ في الواحد والسبعين من عمره يُسمّي نفسه «هنري الثالث عشر». أكثر ما يكرهونه ألمانيا الديمقراطيّة الحديثة التي يرفضون الإقرار بها ودفع الضرائب لها: بعضهم طبعوا عملات وبطاقات هويّة بديلة. أحد تنظيماتهم «ك نون» يرى أنّ السلطة الألمانيّة الفعليّة تقيم في يد «دولة عميقة» ذات قدرات سرّيّة وخطيرة. لا ثقة لديهم بالمؤسّسات ولا بالعلم: «كوفيد»، في نظرهم، مجرّد مؤامرة، والمعلومات الكاذبة عنها جزء من خطّة هدفها السيطرة على السكّان وإخضاعهم. الإعلام مكروه لأنّه مضلّل. وسائل التواصل الاجتماعيّ سلاحهم الأمضى لنشر خرافاتهم وتعميمها. الولايات المتّحدة واليهود، وعلى جاري العادة، يحتلّون رأس قائمة الخطر وصناعة المؤامرات الشرّيرة. مجلّة «دير شبيغل» أضافت عنصراً آخر، إذ أشارت إلى أصابع روسيّة وراء المحاولة، لكنّ الناطق بلسان الكرملين نفى ذلك.
المعلومات التي رشحت عن هؤلاء تتجمّع عند مسألتين مترابطتين: الأولى، انشداد إلى ماضٍ، أغلبه مُتخيّل، بوصفه هو الحلّ. انشداد كهذا ينمّ عن قلق العيش في حاضر متحوّل ومأزوم. هنا يمكن إدراج تحدّيات العولمة واللجوء والهجرة والتصدّعات التي تعانيها الدولة - الأمّة في زمننا الراهن. أمّا المسألة الأخرى، فهي التشكيك الشعبويّ في الديمقراطيّة وفي مؤسّساتها، والقناعة المتزايدة بأنّ هذا النمط في الحكم وفي العلاقات الاجتماعيّة لم يعد يوفّر الأمان الاقتصاديّ أو أيّ أمان آخر للسكّان.
المُقلق في هذا ليس الـ25 شخصاً الذين كانوا يُعدّون لانقلاب عسكريّ ثمّ اعتُقلوا، وليس في أنّ كثيرين من المتطرّفين الألمان مسلّحون، أو أنّ أعداد مسلّحيهم تزايدت في السنوات الأخيرة. المقلق أنّ اجتماع ضعف الديمقراطيّة ومعاندة الزمن سبب لظاهرات بشعة ليس الانقلاب العسكريّ سوى واحد منها.
مراجعة سريعة لبعض تاريخ هذا الصنف من المحاولات في أوروبا الديمقراطيّة تؤكّد هذا المعنى.
في 1961، ورفضاً لنزع الاستعمار في الجزائر، حاول أربعة جنرالات فرنسيّين متقاعدين إطاحة الرئيس شارل ديغول. معاندة الزمن ترافقت مع الإضعاف الذي كانت الحرب الجزائريّة قد أنزلته بالديمقراطيّة الفرنسيّة والجمهوريّة الخامسة.
إيطاليا شهدت، في 1964 كما في 1970، محاولتين انقلابيّتين كان هدفهما قطع الطريق على أيّ محاولة للإقرار بشرعيّة الحزب الشيوعيّ وإشراكه في الحكومة. الديمقراطيّة الإيطاليّة كانت (ولا تزال) تعاني ضعفاً غالباً ما تبارى المحلّلون في شرحه.
إسبانيا في 1978 عرفت محاولة لمنع التحوّل إلى الديمقراطيّة الذي لم يبدأ إلاّ مع وفاة الديكتاتور فرنكو في 1975.
مؤخّراً، في 2017، كان لرفض العولمة والدولة الحديثة، وللتأثّر بنموذج بوتين في روسيا، أن تسبّبا في محاولة انقلابيّة في النمسا، كثيراً ما تشبه المحاولة الألمانيّة الأخيرة أفكاراً وإعداداً وهزالاً. قائدة المحاولة مونيكا أونغر أرادت لحركتها أن تمهّد لانقلاب يشنّه الجيش.
أمّا ألمانيا نفسها فسبق أن شهدت في عشرينات القرن الماضي أكثر من محاولة انقلابيّة، دفع إليها السباق بين الانهيار الاقتصاديّ وتراجع الثقة بالحياة السياسيّة والديمقراطيّة لجمهوريّة فايمار. إحدى تلك المحاولات التي انطلقت من مدينة ميونيخ في 1923 كان على رأسها، وسُجن بسبب فشلها، أدولف هتلر. لكنّ الأخير وصل بعد عشر سنوات فحسب، ومن خلال العمليّة الانتخابيّة، إلى سدّة السلطة.
هذا لا يعني أنّ أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، مهدّدة بتكرار ما حصل قبل قرن. مع ذلك، تأتي المحاولة الانقلابيّة الأخيرة لتحضّ على الحذر وتوجب القلق. فلنتذكّر فحسب أنّ أحزاب أقصى اليمين باتت تحكم بلداً كإيطاليا، وأنّ المبدأ الانتخابيّ نفسه، وهو أكثر مبادئ الديمقراطيّة صموداً في وجه الشعبويّات، بدأت تطاله الشكوك على ما دلّت الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في الولايات المتّحدة، وإلى حدّ ما في البرازيل. لنتذكّر دعوة دونالد ترمب الأخيرة للاستغناء عن الدستور. لنتذكّر الانتخابات الإسرائيليّة والحكومة التي ستنبثق منها... ولنلاحظ دوماً تلك المباراة الدائرة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار لتكسير الديمقراطيّة وإعلان موتها. هذا كلّه قد يتحوّل، وهو يتحوّل، إلى بنادق تطلق رصاصاً قاتلاً وسامّاً في الاتّجاهات كلّها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

على هامش «المحاولة الانقلابيّة» في ألمانيا على هامش «المحاولة الانقلابيّة» في ألمانيا



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 04:21 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل مقتل 4 جنود في مخيم جباليا
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل مقتل 4 جنود في مخيم جباليا

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon