توقيت القاهرة المحلي 21:26:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«لكنّنا لم نبنِ دولة»

  مصر اليوم -

«لكنّنا لم نبنِ دولة»

بقلم:حازم صاغية

في ظلّ الحاجة المُلحّة إلى حجج سجاليّة جديدة، بعد تهالُك نظريّات «الحماية» و«القوّة» اللتين يوفّرهما «حزب الله» للبنان، يتردّد، في البيئة المدافعة عن الحزب نفسه، أنّ اللبنانيّين لم يبنوا دولة، وأنّهم لم يفعلوا هذا بسبب الطائفيّة وما نجم عنها من فساد ومحاصصة. وما دام الأمر كذلك، بات كلّ عمل معذوراً في الحدّ الأدنى، ومجيداً في الحدّ الأقصى.

والحال أنّ الدفاع عن الدولة اللبنانيّة، أو زعم تعافيها من الأعطال البنيويّة، هما دائماً مهمّة صعبة، إلاّ أنّ هذه الصعوبة تبقى أقلّ كثيراً من صعوبة الموافقة على ذاك الصنف من النقد المعوجّ، وعلى الموقع الذي يصدر عنه النقد والناقد.

فما يُلاحَظ أنّ دعاة «عدم بناء الدولة» إنّما يوجّهون نقدهم هذا، تقليديّاً وحصريّاً، ضدّ التجربة السياسيّة اللبنانيّة، فيما لم يؤخذ على الأنظمة الأمنيّة والعسكريّة في المشرق أنّها لم تبنِ دولة. وبما أنّ الأنظمة المذكورة فهمت الدولة بوصفها حزباً واحداً وسلطةً قمعيّة جاثمة على صدر المجتمع ومواطنيه، جازت لنا معاملة النقد الموجّه إلى النموذج اللبنانيّ بوصفه نقداً لعدم عسكريّته ولضعف طبيعته الأمنيّة. أكثر من هذا، وعلى مدى عقود طويلة وُصفت تلك الأنظمة، خصوصاً في سوريّا الأسديّة والعراق الصدّاميّ، ومعهما ليبيا القذّافيّة، بـ «الوطنيّة» و«التقدّميّة»، كما استُعينَ بسلاحها ومالها لتقويض النموذج اللبنانيّ الذي يوصف بعدم بناء الدولة.

أمّا أدبيّات النقّاد التي تزخر بمطالبات الرقابة والعقاب والمنع والمقاطعة والتشهير والزجر، وأمّا مصادر استلهامهم الفكريّ التي تتراوح بين أنظمة ديكتاتوريّة عسكريّة في المنطقة وأنظمة توتاليتاريّة سبق أن عرفتها أوروبا، فتشجّع كلّها على أسوأ الافتراضات في ما خصّ النقّاد ونقدهم.

والراهن أنّه لم يكن قد انقضى غير 15 سنة على استقلال لبنان في 1943، حتّى كانت المحاولة الأولى لكسر الدولة اللبنانيّة الناشئة، وقد جرى ذلك بالعنف وبالسلاح ممّا كانت تغدقه «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» علينا بسخاء وإفراط. ولئن وُجد ما يشبه الإجماع على أنّ الرئيس الراحل فؤاد شهاب باشر، في الستينات، مشروعاً جدّيّاً لبناء الدولة والمؤسّسات، فالواضح أنّ نقّادنا أيّدوا مناوأة هذا المشروع لحظة اصطدام مؤسّساته بالمقاومة الفلسطينيّة أواخر العقد نفسه، وصنّفوه انعزاليّاً.

وفي حالتي الانحياز إلى ناصريّة الخمسينات والستينات وإلى المقاومة الفلسطينيّة في الستينات والسبعينات، كان واضحاً أنّ النقّاد يعتبرون أنّ الدولة المثلى هي دولة القوّة، الموصوفة بالوطنيّة والقوميّة، والمستندة عمليّاً إلى التجبّر الميليشيويّ وتفتيت المجتمع على خطوط طائفيّة. فأمر السيادة وأمر الحدود لم يكونا مرّةً على أجندتهم، وكان من المستهجَن لديهم أن يكون لبنان هو المقصود بتعبيري «الوطن» و«الوطنيّة».

ودائماً كان يوكَل لـ «التحليل الموضوعيّ» أن يُقنعنا بما لا يُقنع طفلاً، من نوع أنّ التناقضات الداخليّة للنظام اللبنانيّ هي التي أوصلت وتوصل إلى نزاعات مؤثّرة على خريطة الشرق الأوسط وفي أحوال العالم. و«التحليل» هذا فيما كان يؤكّد أنّنا «لم نبنِ دولة»، من ضمن المبالغة المعهودة في رسم العيوب اللبنانيّة، كان يبرّئ التدخّلات والمداخلات العنفيّة الخارجيّة في الشأن اللبنانيّ، أو يجهد لتحويل الأنظار عنها. فـ «حرب السنتين» في 1975 – 1976 لا تُفهم، وفقاً لـ «التحليل الموضوعيّ» هذا، من دون انهيار بنك أنترا في 1966، واغتيال رفيق الحريري في 2005 تخفّف من وقعِه سياسة «الرأسماليّة المتوحّشة» التي اتّبعها الحريري. أمّا التدخّل الإيرانيّ في لبنان فيمكن إدراجه في تعزيز صمود الدولة والمجتمع اللبنانيّين ضدّ إسرائيل والصهيونيّة ومن ورائهما الإمبرياليّة...

لكنّ فضيحة هذا التحليل تكمن في مكان آخر: فحتّى لو سلّمنا بأننا لم نبنِ دولةً بأيّ معنى كان للبناء وللدولة، فهل هذا يجيز الإكمال على الدولة الناقصة بجعلها أشدّ نقصاً والموافقة على دولة توازيها وتملك سلاحاً وجيشاً أقوى من سلاحها وجيشها، كما تستطيع ساعة تشاء أن تفتح حرباً وأن تغلقها؟ وحتّى لو سلّمنا أيضاً بأنّ الطائفيّة، وبأيّ معنى يُحمّل للكلمة، هي التي منعت قيام الدولة، فهل يجيز هذا إحاطة «حزب الله» بالعواطف السخيّة الملتاعة، علماً بأنّه الحزب الدينيّ والطائفيّ الذي، فوق دينيّته وطائفيّته، يحصر قيادته في رجال الدين دون سواهم؟

أغلب الظنّ أنّ ثمّة كراهية للنموذج اللبنانيّ نفسه هي التي تفسّر الكثير من مواقف من يوصفون بالتقدميّين واليساريّين والتحرّريّين كائنة ما كانت صحّة انطباق الصفة على الموصوف. والكراهية هذه قد يكون أهمّ أسبابها أنّ النموذج المذكور لا ينطوي على سلطات أمنيّة من النوع الذي يهفو له قلب كارهي النموذج، بل يطالبنا بأن نسعى إلى الصداقات غير المحكومة بالجغرافيا من دون أن نرث العداوات المحكومة بالتاريخ.

وربّما كانت هذه الكراهية أحد أبرز أسباب الحماسة لزجّ لبنان في «حرب الإسناد والمشاغلة» التي تستطيع أن تُفنيه وتُفني نموذجه مرّة وإلى الأبد، فيما تهبنا في المقابل كلّ ما نشتهي: مجد «الخراب العظيم» وأعداداً لا حصر لها من الشهداء والضحايا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«لكنّنا لم نبنِ دولة» «لكنّنا لم نبنِ دولة»



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon