توقيت القاهرة المحلي 13:01:37 آخر تحديث
  مصر اليوم -

دفاعاً عن قدْر من اللا أدريّة في تحليل عالمنا

  مصر اليوم -

دفاعاً عن قدْر من اللا أدريّة في تحليل عالمنا

بقلم :حازم صاغية

في الحقبة العريضة المنصرمة التي دامت قرناً ونيّفاً، شهد العالم أربعة تطوّرات كبرى تعارفنا على تصنيفها انتكاسات كبرى.ففي 1914 اندلعت الحرب العالميّة الأولى التي جاءت «تتويجاً» لم ينتظره أحد لـ «الزمن الجميل» في أوروبا. ذاك أنّه منذ الحرب الفرنسيّة البروسيّة وقيام الوحدة الألمانيّة في 1871، بدا أنّ القارّة استقرّت على حال واعدة. فحدودها الداخليّة رُسّمت، سيّما وأن إيطاليا شهدت هي أيضاً وحدتها في السياق ذاته. وبعدما صارت الحروب النابوليونيّة تنتسب إلى ماضٍ بعيد جدّاً، انضوت في ذاك الماضي الأحداث الثوريّة الكبرى كالتي عرفها عاما 1830 و1848. لكنّ «الزمن الجميل» كان أيضاً زمن بحبوحة اقتصاديّة شرع السكّان معها يحصدون ثمار الثورة الصناعيّة، وكان زمن تقدّم علميّ وتقنيّ هائل ربط للمرّة الأولى في التاريخ بين أطراف العالم، بالطرق والجسور وسكك الحديد والقنوات، فضلاً عن ربطه أطراف البلدان الأوروبيّة نفسها. وعلى الصعيد السياسيّ كان يتبدّى أنّ النمط الديمقراطيّ شرع يستقرّ ويتمدّد، وأنّ روسيا القيصريّة المتأخّرة، المنزوية في الشرق، تغدو أشبه باستثناء مُنفّر كبير.

وبعد تأسيس «عصبة الأمم»، التي استوحاها الرئيس وودرو ويلسون من أفكار إيمانويل كانط (وكان ويلسون أستاذاً في برينستون يدرّس فلسفة كانط)، تراءى أنّ قواعد جديدة قد ارتسمت لعالم ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وأنّ القواعد هذه سوف تقي بشر المعمورة الحروب والكوارث. لكنْ لا. فالتوحّش النازيّ والفاشيّ أمسك بعنق أوروبا وهدّد العالم بأسره، فيما كانت الستالينيّة تصلّب نموذجاً بالغ الاستبداديّة في حكم الملايين. وفي آخر المطاف جاءت الحرب العالميّة الثانية ترفع عدد قتلى الحروب من تسعة ملايين في الحرب الأولى إلى ما بين خمسين وستين مليوناً، كما تزيد نسبة المدنيّين القتلى إلى المقاتلين بمعدّلات غير مسبوقة.

وانتهت الحرب تلك بهزيمة النازيّة، ثمّ نشأت الأمم المتّحدة وريثاً لـ «عصبة الأمم» أصلب منها وأفعل، وكانت محاكمات نورمبرغ، كما انتشرت صرخة «لن يحدث ثانيةً أبداً» بوصفها درساً مستفاداً من المحرقة اليهوديّة، وبدوره طوّر القانونيّ البولنديّ نظريّةً في «الإبادة» أُقرّت دوليّاً، وهذا فيما كانت تنطلق، ابتداء بالهند الكبرى في 1947، حركة الاستقلالات ونزع الاستعمار في «العالم الثالث». لكنْ سريعاً ما أطلّت الانتكاسة الثالثة، من ألمانيا ومن كوريا، مع نشوب الحرب الباردة في فجر الخمسينات. وبوضع الأخيرة أوزارها أواخر الثمانينات، وانهار الجدار الشهير، عمّ التفاؤل بشيوع الديمقراطيّة وزوال الأنظمة العنصريّة وتسوية المشكلات الإقليميّة المزمنة. وبالفعل تحقّقت إنجازات على هذا الصعيد، إلاّ أنّ المذابح، المصحوبة بانهيار الدول، راحت تتسارع هي الأخرى على صعيد آخر. فمن البوسنة ورواندا وميانمار إلى أوكرانيا وسوريّا وغزّة والسودان...، تبيّن أنّه «يحدث ثانيةً» بالفعل، وأنّ الحرب الباردة لم تنته إلاّ لتبدأ حروب ساخنة كثيرة في سائر بقاع الأرض. وفي الآن نفسه، استولت الشعبويّة على السياسة في الأغلبيّة الساحقة من بلدان العالم المؤثّرة وفي الكثير من عموم بلدانه. وها هي المباراة الرثّة والمحزنة بين مرشّحي الرئاسة في أميركا، أو نتائج الانتخابات الأوروبيّة في فرنسا، تُنبئنا بأنّ السياسة تعاني الأمرّين في البلدان التي ابتكرت السياسة بمعناها الحديث.

بطبيعة الحال تحظى أعمال التعليل والسببيّة، وعلى نحو دائم، بأهميّة مطلقة، لكنْ ربّما بات مطلوباً أيضاً قدر من التواضع أكبر، قدرٌ نقتنع معه بأنّ تحليل المشكلات ليس بالضرورة حلاًّ لها، خصوصاً متى تولّى التحليلُ، بهمّة الإيديولوجيّين العُتاة، تنصيب سبب واحد وحيد تُفسَّر به المشكلات من غير استثناء.

ذاك أنّ في وسعنا، ونحن نحصي الأسباب، أن نعدّ كلّ عنصر تقريباً بوصفه مالكَ سهمٍ في الانتكاسات، والكثيرُ من تلك العناصر نقائض ينفي واحدُها الثاني. فمن نقص التحديث إلى الإفراط في التحديث، ومن اللاعقل إلى العقلانيّة الصافية، ومن تفكّك الإمبراطوريّات إلى بناء الامبراطوريّات، ومن إنشاء المستعمرات إلى الفشل في امتلاك مستعمرات، ومن تصدير الرساميل إلى الامتناع عن تصديرها، ومن النيو ليبراليّة إلى الشيوعيّة، ومن الإسلام السياسيّ إلى رُهاب الإسلام، ومن اللاساميّة إلى الصهيونيّة، ومن امّحاء الهويّات إلى انتفاخها...، تزدحم أسباب صالحة كلّها لأن تفسّر انتكاساتنا السابقة والراهنة. فكأنّنا، نحن البشر، يستولي علينا عجز باهر عن تحديد نقاط تتوازن عندها المعاني والمسؤوليّات وعن الإقامة فيها، أو البناء عليها.

وإذا استبعدنا الكلام في «طبيعة البشر» و»طبائع الشعوب» و»أصل الشرّ»، بقي أنّ قدْراً من اللا أدريّة التحليليّة ربّما كان مفيداً، خصوصاً وأنّ ما نسمّيه انتكاسة إنّما يتبدّى جزءاً من التاريخ لا يقلّ أصالة ورسوخاً عمّا نسمّيه صعوداً أو تقدّماً أو استقراراً أو غير ذلك من أسماء حسنى لا تعمّر أكثر ممّا تعمّر الانتكاسات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دفاعاً عن قدْر من اللا أدريّة في تحليل عالمنا دفاعاً عن قدْر من اللا أدريّة في تحليل عالمنا



GMT 04:09 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

حصان طروادة

GMT 04:07 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

لكي ننقذ أهرامات الجيزة والمتحف المصري الكبير

GMT 04:05 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

على أبواب الجحيم!

GMT 04:04 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

العالم القديم يتآكل

GMT 04:03 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

عزيزتي الحكومة مجددًا

GMT 04:01 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

الإخوان ألَدّ الخصام

GMT 04:00 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

.. وفرنسا أيضًا إلى اليمين

GMT 03:59 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

ويصبح الخيال سجينًا

نجوى كرم تُعلن زواجها أثناء تألقها بفستان أبيض طويل على المسرح

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 13:37 2024 الإثنين ,01 تموز / يوليو

الجمبسوت الخيار الأول لهيفاء وهبي بلا منازع
  مصر اليوم - الجمبسوت الخيار الأول لهيفاء وهبي بلا منازع
  مصر اليوم - أفكار للكراسي المودرن الخاصة بالحديقة المنزلية

GMT 11:10 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ضابطين في قطاع غزة
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ضابطين في قطاع غزة

GMT 10:22 2024 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

محمد رمضان يكشف سبب غيابه عن موسم دراما رمضان 2025
  مصر اليوم - محمد رمضان يكشف سبب غيابه عن موسم دراما رمضان 2025

GMT 07:06 2024 الإثنين ,19 شباط / فبراير

الهلال السعودي يعادل ريال مدريد برقم قياسي مميز

GMT 01:01 2019 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

يسيتش يسعى لتكرار فوزه على الجزيرة الإماراتي

GMT 06:52 2017 الثلاثاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

النجم التركي كيفانش تاتليتوغ يخفي حمل زوجته

GMT 18:54 2015 الإثنين ,11 أيار / مايو

ضبط 2 قيراط "بانغو" مخدر في الفيوم

GMT 08:59 2016 الإثنين ,14 آذار/ مارس

المؤلف مجدي صابر

GMT 20:48 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ريهام سعيد تظهر بوزن زائد في "سبوع" ابنها طارق

GMT 09:12 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

بيونسيه في إطلالة فاضحة على خطى ليل كيم

GMT 12:27 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد سليمان يكشف تفاصيل محاولته لخطف رمضان صبحي من الأهلي

GMT 09:00 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

هيفاء وهبي تخطئ في تنسيق إطلالتها الأخيرة في باريس

GMT 09:52 2022 الخميس ,22 كانون الأول / ديسمبر

تدهور الحالة الصحية لأسطورة الكرة البرازيلية بيليه

GMT 17:18 2021 الإثنين ,27 أيلول / سبتمبر

مدى التوافق في الزواج والحب للأشخاص من نفس البرج
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon