توقيت القاهرة المحلي 21:31:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصهيونيّة المتقلّصة والصهيونيّة المتمدّدة

  مصر اليوم -

الصهيونيّة المتقلّصة والصهيونيّة المتمدّدة

بقلم:حازم صاغية

بعد عمليّة السابع من أكتوبر، باتت الصهيونيّة موضوعاً لقراءتين ولتوقّعين:

– إمّا الحسم بفشلها كعلاج للمسألة اليهوديّة، علاجٍ قيل أنّه وحده ما يضمن لليهود وطناً ودولة يحميان أمنهم وفيهما يحرزون شروط الاستقرار والنماء،

– أو تجديدها بعد أن تُعزَّز بمزيد من الأنياب التي تمتّن ذاك العلاج، كما بيقين أكبر بأنّ ما من بديل لها، سيّما وأنّ أمن اليهود خارج دولتها بات هو الآخر أقلّ ممّا كان.

والحال أنّ عالم اليوم يحفل بعناصر عدّة تجعل الصهيونيّة، والقوميّة عموماً، مسألة مُتَخَطّاة: من عولمة الاقتصاد إلى عولمة مسائل البيئة، ومن قيام مؤسّسات دوليّة إلى مكافحة أنواع من الجرائم عابرة الحدود...

ثمّ إنّ التخطّي هذا إذا صحّ في القوميّة ككلٍّ، فهو أكثر صحّة في حالة الصهيونيّة، ليس فقط لأنّها طردت شعباً وأحلّت محلّه شعباً آخر آثرت عدم الاعتراف بوجوده، بل أيضاً لأنّها من صنف «القوميّة الجماعاتيّة» (communitarian nationalism) التي تتضارب تعريفاً مع اشتغال التعدّديّة الثقافيّة ومع غلبة الروابط المدنيّة (civic) والعمل بموجب حقوق الإنسان وباقي القيم الكونيّة...

لكنّ التخطّي، مع هذا، يبقى تخطّياً نظريّاً. ذاك أنّ العالم الذي يتجاوز هذا النمط من القوميّات إنّما يؤكّده في الوقت نفسه ويكرّسه. فهو يتجاوزه في العلاقات الماديّة فيما يؤكّده في الوعي، الأمر الذي يعبّر عنه الإجماع الراهن حول عيشنا في زمن الهويّات المصحوب بتحوّل كونيّ متسارع إلى لون من القَبَليّة.

هكذا نجدنا أمام مفارقة كبرى هي أنّ الصهيونيّة، المتخَطَّاة نظريّاً، تغدو مثالاً لسواها ممّن يُغريهم اعتناق عقائد تشبه الصهيونيّة، أو إقامة دول تشبه إسرائيل.

وأغلب الظنّ أنّ الرغبة في تفكيك الصهيونيّة، وهي رغبة شرعيّة وتقدّميّة في آن، لن تغدو فعليّة إلاّ في حال انحسار الفورة الهويّاتيّة والقَبَليّة على نطاق عالميّ، وفي منطقتنا على الأخصّ. تكفي العودة إلى عقود قليلة لإقناعنا بأنّ فورة الهويّاتيّة والقَبَليّة، بالصهيونيّ فيها وبما هو مضادّ للصهيونيّة، كانت ولاّدة حروب مفتوحة وكوارث متمادية.

ويجوز القول، في المقابل، إنّ الانفراجات السياسيّة، وتالياً الفكريّة والإيديولوجيّة، هي أكثر ما يقصّر عمر الصهيونيّة. فنحن نعرف، مثلاً لا حصراً، كيف أنّ المناخ الذي افتتحته اتّفاقيّة أوسلو في 1993 أنجب ظاهرة «ما بعد الصهيونيّة» ومعها مراجعات «المؤرّخين الجدد» ممّن قدّموا الحجج التاريخيّة الأصلب على تلازم الاقتلاع والطرد مع نكبة 1948. ونعرف أيضاً أنّ ما قتل اقتراح الدولة الواحدة للعرب واليهود في فلسطين التاريخيّة، وما يتأدّى عنها من قيام أكثريّة عدديّة عربيّة وأقلّيّة يهوديّة، هو بالضبط أنّ المنطقة كلّها غارقة في صراعات الأكثريّات والأقلّيّات والتعويل على العدد سلاحاً لفضّ النزاعات. وهكذا سوف يستحيل على اليهوديّ الإسرائيليّ، حتّى لو كان معتدلاً، أن يقبل بحلّ كهذا فيما هو يلمس في جواره المخاوف التي يتبادلها السنّيّ والشيعيّ، والعربيّ والكرديّ، والمسلم والمسيحيّ...، والمرشّحة أن تنقلب دوماً إلى موت ودمار. وبالتأكيد لو كُتب النجاح لتجربة ديمقراطيّة وعلمانيّة واحدة في المنطقة العربيّة لبدت العدوانيّة الصهيونيّة أشدّ مجافاة للعصر وأكثر حَرَجاً بعدوانيّتها.

ولن يكون من المبالغة افتراض أنّ كلّ تشدّد في الروابط الهويّاتيّة إنّما هو هديّةٌ صافية مصفّاة للصهيونيّة، وتزكية لأشدّ «حلولها» دمويّة وبربريّة ممّا نراه اليوم. يصحّ هذا في القوميّة العربيّة كما يصحّ في الإسلام السياسيّ أو في أيّة نزعة من هذا القبيل. وكما أنّ جنوح الصهيونيّة إلى التطرّف والجنون يدفع تلك الروابط إلى تطرّف وجنون مقابلين، فإنّ العكس صحيح أيضاً. بل ربّما كانت إحدى مِحَن تاريخنا الحديث أنّ الصهيونيّة الإسرائيليّة تُضعف كلّ نقد يمكن أن يوجَّه لحركات حزبيّة وميليشياويّة ترفع رايات قوميّة أو إسلاميّة، بل تقوّي تلك الحركات، تماماً كما أنّ وجود هذه الأخيرة يعطّل كلّ أمل بضمور الصهيونيّة أو تآكلها.

ونعرف كيف أنّ نزعات الهويّة لا تعبأ بسواها كما لا تعبأ بأمزجة الزمن، ماضيةً في دفع نفسها والعالم إلى خلاصات قياميّة. فالصهيونيّة مثلاً أنشأت دولتها ضدّاً على موجة نزع الاستعمار، وذلك بعد عام واحد فقط على استقلال الهند، ولم يولد الانقلاب العسكريّ القوميّ العربيّ، المتأثّر آنذاك بالفاشيّة قبل أن يتأثّر بالشيوعيّة السوفياتية، إلاّ بعد هزيمة الفاشيّة في الحرب العالميّة الثانية. أمّا افتتاح التحوّل إلى إسلام سياسيّ حاكم، مع ثورة إيران في 1979، فلازم الانتقال الذي أحدثه أنور السادات نحو تهدئة المنطقة، فيما كانت تتكاثر الإشارات الدالّة إلى أنّ الحرب الباردة شرعت تستنفد نفسها.

لهذا يلوح أنّ استخلاص الوطنيّة الفلسطينيّة من براثن الهويّات والقَبَليّات هو أكثر ما يصالحها مع مصالح الفلسطينيّين أنفسهم فيما يَقيها، ويَقينا، شرور الروابط الجماعاتيّة، خصوصاً أقدرها على ممارسة الشرّ والأذى، أي الصهيونيّة. وبطبيعة الحال فإنّ انكفاء كهذا نحو الوطنيّات، وخصوصاً الوطنيّة الفلسطينيّة، لا يحصل إلاّ بالتوازي وبالتكافل والتضامن بين المعنيّين بالصراع جميعهم. وهذا، للأسف، ما لا يلوح له اليوم أثرٌ يُذكر، تاركاً إيّانا أمام قدر أكبر من الصهيونيّة ومن مضادّاتها غير الحيويّة، في منطقة تتحوّل قاعاً صفصفاً مرصّعاً بـ»الانتصارات».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصهيونيّة المتقلّصة والصهيونيّة المتمدّدة الصهيونيّة المتقلّصة والصهيونيّة المتمدّدة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon