توقيت القاهرة المحلي 03:30:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ماذا نفعل بسيغموند فرويد؟

  مصر اليوم -

ماذا نفعل بسيغموند فرويد

بقلم - حازم صاغية

لا بأس بأن يُستهلّ الكلام باعتراف: فأنا لم يحيّرني كاتب كما حيّرني سيغموند فرويد. كنت كلّما قرأته أحسست أنّه يتسلّل إلى غرفة معتمة من نفسي لا يدخلها أحد سواي. وكان صعباً على من يحسّ هكذا أن يهضم النقد الماركسيّ لصاحب «الطوطم والتابو». هكذا غمرتني السعادة حين قرأت أحد كتب هربرت ماركيوزه: ها هو أستاذ ماركسيّ يستخدم التحليل الفرويديّ. إذاً، انكفأتِ الحيرة المعذِّبة ولم تعد تتهدّدني شبهة الهرطقة.
والحال أنّ قليلين هم الذين اختلف النقّاد حولهم اختلافهم حول الطبيب والمعلّم النمساويّ. فما الذي أعطانا إيّاه؟ وأين اختلفت الآراء حوله؟
منذ كتابه «تفسير الأحلام» في 1900، اعتُبر فرويد مؤسّس التحليل النفسيّ، وفي متنه مبدأ اللاوعي الذي طبّقه لاحقاً على الدين والتاريخ والأدب. وإذا صحّ، كما قال هو، أنّ الشعراء والفلاسفة سبق أن اكتشفوا اللاوعي، فإنّه هو مكتشف الوسائل «العلميّة» التي تتيح دراسته كأحد مستويات ثلاثة، الآخران فيها هما الوعي وما قبل الوعي.
وكان لفرويد فتح في فهم العقل، فرآه أجزاءً ثلاثة متنازعة هي: «الهُوَ»، الآمر باللّذّة، و«الأنا العليا»، الآمرة بضبطها والحافظة للأخلاق والقوانين، و«الأنا» كمحطّة لتوازنهما. ولئن مرّ نموّ الفرد الجنسيّ بأطوار ثلاثة، فكلٌّ من هذه الأطوار لازمه سلوك بعينه، لكنْ يبقى الأهمّ كشفه عن وجود عالم جنسيّ للأطفال، وأنّ كلّ فرد جنسيٌّ منذ الطفولة. يومها أثار الاكتشاف غضب الكثيرين من معاصريه، خصوصاً مَن آمنوا بـ«براءة الأطفال».
فبَشر فرويد مدفوعون، في النهاية، بـ«مبدأ اللّذّة»، وهو ما ينبغي الحدّ من اندفاعه بـ«مبدأ الواقع» الذي يضمن التكيّف والمقبوليّة. حتّى رابط القرابة ليس عاصماً من الرغبة، والشاهدُ ما سماه «عقدة أوديب»، لكنّ الجمع بين الحبّ والجنس صعب، فالذين نحبّهم ونتعلّم منهم الحبّ يستحيل الجنس معهم، تماماً كالقنفذ إبّان الشتاء: حاجةٌ إلى الحَضن طلباً للدفء، ومانعٌ من الاقتراب بسبب شوك القنفذ. وفي علاقات إنسانيّة كهذه يقف العُصاب بالمرصاد، لكنّنا لسنا وحدنا من يُصاب بالعُصاب؛ إذ المجتمعات نفسها قد تُصاب به، كما كتب في الحقبة المضطربة لما بين الحربين العالميّتين.
أمّا الهستيريا، فمن خصوصيّاتها معاناة المرضى عوارض فيزيائيّة دون أن يكونوا مصابين بمرض فيزيائيّ، وأمّا النكتة فتساعدنا على السخرية من واقع لا نستطيع مقاومته، فيما زلّة اللسان (وصارت تُعرف بالزلّة الفرويديّة) فتنمّ عن توتّر ونزاع مع أفكار ومشاعر بعينها. فحين تتصارع رغبات اللاوعي مع ما قبل الوعي، تأتينا تلك الرغبات بطرق ملتوية كزلّات لسانٍ أو كأحلام تبقى «الطريق المَلكيَّ إلى لا وعينا». وقد يوضح تحليل الأحلام رغبات مقموعة؛ إذ تشي بالجنسيّ والعدوانيّ الذي نحمله منذ الطفولة، لكنّها لا تكشفها بشكل مباشر، بل على هيئة مُقنّعة ومخرَّبة.
ومن «الميكانيزمات الدفاعيّة» و«رغبات الموت»، إلى تأويل خاصّ لأحداث تاريخيّة كبرى (موسى والتوحيد...)، أثّرت أفكاره في الأدب والفنّ والطبّ، وانجذب مثقّفون إلى تحليله لفهم الحرب والسلم، والحبّ والكراهية، والدين والأخلاقيّات.
بيد أنّ أفكاره الرجعيّة ليست قليلة ولا بسيطة، بعضها من تحيّزات زمنه، وبعضها من الحدود المتواضعة لتقدّم العلوم وتأثّر القرن الـ19، حيث عاش ثلثي عمره، بالأفكار العضويّة والعلمويّة. وفي الأحوال جميعاً، لا تنجو آراؤه الرجعيّة تلك ممّا بات العلم يعتبره أخطاء موصوفة.
لقد انتُقد في مسألة التكيّف والتطابق، مع أنّه قال بعودة المكبوت، وتحفّظ ليبراليّون على تحكّم قوى لا واعية بوعي الفرد، ورفض ماركسيّون الاعتراف بإنسان عابر للفوارق الطبقيّة، علماً أنّ كثيرين من الليبراليّين والماركسيّين اتّكأوا لاحقاً على الفرويديّة.
واستمدّ فرويد الكثير من السيكولوجيا الفرديّة من الوراثة البيولوجيّة لأحداث سحيقة القِدم، بسبب ما اعتبره تأثيراً تخلّفه الرضّات القديمة على البشر. فطور البرودة الجنسيّة مثلاً، الذي يسبق البلوغ، رآه صدى من أصداء عصر الجليد. وهناك آراؤه المَقيتة في النساء: فهنّ، وفق مفهومه مسكونات بحسدهنّ، ورغبتهنّ الدائمة والمحبطة هي التحوّل إلى ذكور. وهنّ غير ناضجات أخلاقيّاً، فيما الأنا العليا عندهنّ معدومة أو ضعيفة، كما أنّهنّ أكثر من الرجال عبثاً وحسداً واتّكالاً وخضوعاً، وأقلّ منهم نشاطاً وقدرة على الحبّ. وباستسلامه لتقريريّة بيولوجيّة قليلة الحفول بالتحوّلات الاجتماعيّة والتطوّرات التقنيّة، أدرج وضع المرأة في خانة الفطرة والأصل. هكذا استخدم محافظون أميركيّون آراءه تلك لإقناع النساء بأنّ أقدارهنّ مقرّرة سلفاً بيولوجيّاً، تماماً كما استُخدم رأيه في المثليّة الجنسيّة بوصفها خللاً في النموّ.
ولم يتصوّر فرويد، الأبويّ دوماً، إلّا أُسَراً مُكوّنة من أب وأمّ وأبناء، ما يعكس عيشه وسط عائلات الطبقات العليا والوسطى المحافظة في فيينا، لكنّه، مع ذلك، غالباً ما غيّب دور الأمّ عن تحليله ومعالجته لمرضاه.
وفي وقت مبكر، ردّت عليه كارِن هورني، المحلّلة النفسيّة الألمانيّة، رغم تصنيفها كـ«نِيو فرويديّة»، فرأت أنّ فوارق الجنسين، التي رفعها إلى مصاف الجوهر، نتاج المجتمع والثقافة، لا البيولوجيا. أمّا رائدات النِّسويّة كسيمون دو بوفوار في فرنسا، وبيتي فريدَن وكايت ميليت في أميركا، فهاجمنه بقوّة واعتبرنه «عدوّ المرأة». مع هذا شذّت النِّسويّة والمحلّلة النفسيّة البريطانيّة جوديث ميتشل، فرأت أنّ اكتشافه التحليل النفسيّ أهمّ من آرائه الرجعيّة وأبقى. فالتحليل هذا إنّما جعل جنسانيّة المرأة موضوعاً مطروحاً، وهو ما يساهم في تحريرها من الثقافة الذكوريّة. كذلك أكّدت ميتشل على ضرورة النزول إلى ما تحت السطح الوصفيّ والقبض على أكثر العناصر جذريّة في التحليل النفسيّ، محاولةً مصالحته مع النسويّة تبعاً لقواسم مشتركة، كتعاطيهما مع عامل الجنس، وتحدّيهما الوضع القائم، والتفافهما على المجتمع والوعي السائد الرادعين لفكرة التغيير.
وهناك أيضاً من ذهب إلى إسباغ «تقدّميّة» عليه، مردّها أنّه مهّد الطريق لحركات تحرّريّة وإبداعيّة، كالثورة الجنسيّة والحركات المثليّة والسورياليّة، بحيث منحتنا الفرويديّة عناصر اعتراض على ما هو «رجعيّ» في الفرويديّة إيّاها.
فهل، بعد كلّ حساب، نحبّ ذاك الشيخ الخلافيّ، أو نرشقه بحجر متأخّر؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماذا نفعل بسيغموند فرويد ماذا نفعل بسيغموند فرويد



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 16:35 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الجيش الإسرائيلي يتخبّط في "أزمة حادة"
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يتخبّط في أزمة حادة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon