توقيت القاهرة المحلي 03:23:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

... عن نظريّات التغيير السائدة

  مصر اليوم -

 عن نظريّات التغيير السائدة

بقلم - حازم صاغية

في منطقتنا، وفي العقود القليلة الماضية، سادت نظريّتان للتغيير. واحدة تقول: دعوا السلطة السياسيّة جانباً وركّزوا على تغيير المجتمع تنويراً ووعياً عقلانيّاً وعلمانيّاً حديثاً. ذاك أنّ تغيير المجتمع وقيمه لا بدّ أن ينعكس، في آخر المطاف، على سلطته السياسيّة. أمّا النظريّة الثانية فتقول: دعوا جانباً المجتمع، بثقافته وتعليمه وممارساته الدينيّة، وركّزوا على السلطة السياسيّة. ذاك أنّ تغيير السلطة لا بدّ أن ينعكس على المجتمع في النهاية.
النظريّتان لم تتصالحا، بل لم تتقاطعا إلاّ لماماً، مع هذا جمع بينهما خروجهما عن الروايات الإيديولوجيّة لزمن الحرب الباردة، حيث الأولويّة للاشتراكيّة أو لتحرير فلسطين أو لبناء وحدة قوميّة ما. لكنّ تجاهلاً آخر جمع بينهما طال التكوينات الاجتماعيّة التي تقوم عليها مجتمعاتنا (طوائف، إثنيّات...)، مع ما يحمله ذلك التجاهل من آثار سيّئة: الإعاقة لبلورة المدى الوطنيّ ولمبدأ امتلاك الشعب الفضاء العام، ومن ثمّ ضعف التركيز على بناء الروابط الوطنيّة والدستوريّة التي يؤمَل أن تحلّ محلّ الطائفة والمذهب والإثنيّة.
اليوم، على أيّ حال، تحصد النظريّتان فشلاً ذريعاً، أو فشلين ذريعين.
فالتركيز النقديّ على تغيير المجتمع وثقافته ينتهي راهناً إلى حصائل رهيبة: مزيد من تراجع الوعي العامّ نحو أشكال أكثر بدائيّة، ونحو مزيد من تراجع تيّارات التقدّم والتنوير، وتعاظُم تأويل الدين على نحو حَرْفيّ جامد. أسوأ من هذا أنّ معظم القائلين بالاقتصار على إسقاط النظام الثقافيّ والأخلاقيّ ينتهون متحالفين مع النظام السياسيّ أو متواطئين معه، وهذا فضلاً عن إغفالهم دور ذاك النظام إيّاه في توليد نظام القيم وفي رعايته.
والحال أنّ الإبقاء على قديمنا السياسيّ لن يفعل سوى تأجيل انفجار يأتي بعد حين، بدلالة الانفجار الذي سبق أن حصل في ظلّ هذا القديم، كما أنّ تأثير النظام العسكريّ - الأمنيّ على جبهة القيم والأفكار سيكون مزيداً من التبلّد والتكلّس.
في المقابل، يتغافل أصحاب التركيز النقديّ على التغيير السياسيّ وحده عن أنّنا، في العشرين سنة الماضية، شهدنا سقوط صدّام حسين ومعمّر القذّافي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي وعمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، لكنّ بلدانهم لم تستقرّ على أوضاع تجمع بين الاستقرار والحرّيّة وشيء من الازدهار، فإمّا حروب أهليّة وأمراء حرب أو سلطات أمنيّة وعسكريّة وحكّام معصومون.
وبالمقارنة مع أحداث تعود إلى أواسط السبعينات، نلاحظ أنّ موت الجنرال فرانكو وإزاحة كايتانو، وريث سالازار، وإطاحة الطغمة العسكريّة في أثينا كانت كافية لنقل إسبانيا والبرتغال واليونان إلى الديمقراطيّة. لقد بدا في تلك البلدان أنّ المجتمعات باتت مهيّأة لتقبّل التغيير، ولم يعد مطلوباً سوى موت الحاكم أو إزاحة العائق السياسيّ من الطريق. عندنا، لم ينضج مثل هذا الاستعداد إلاّ في بيئات ضيّقة.
لا يعني الكلام هذا أنّ إطاحة الأنظمة التي أطيحت كانت خطأ، سيّما وأنّها أثبتت جدارتها في تحويل الأزمات إلى كوارث.
ما يعنيه، في المقابل، أنّ التغيير السياسيّ يبقى شرطاً ضروريّاً إنّما غير كافٍ، تماماً كما أنّ التغيير الثقافيّ والقِيَميّ شرط ضروريّ إنّما غير كافٍ أيضاً. فأجندة التغيير لا بدّ أن تكون أشمل ممّا كانت عليه وأغنى، سيّما وأنّ النظامين السياسيّ والثقافيّ - المجتمعيّ شريكان، بالتكافل والتضامن، بالاتّفاق وبالاختلاف، في إنتاج الحال الشنيعة التي وصلنا إليها. وها نحن نرى بالتجريب أنّ الاكتفاء بمقارعة نظام ما، أو بتحدّي وعي ما، لا يضمن أيّ تحوّل واعد، بل قد يؤدّي إلى أوضاع أسوأ من التي أنشأتها تلك الأنظمة ومعها منظومات الوعي القديم.
أغلب الظنّ أنّ مخيّلة العقل التغييريّ سوف تواجه، عاجلاً أم آجلاً، مهمّة التركيب بين هذين البُعدين. فالنتيجة السوداء التي تصفعنا اليوم، في العالم العربيّ، تستدعي التفكير بطرق أخرى.
وقد يقال أنّ الطريق صعب وطويل أمام تبلور أجندة كهذه وتحوّلها حركاتٍ شعبيّة فاعلة، وهذا صحيح. ففضلاً عن صعوبة المهمّة نفسها، تنضاف عناصر أخرى يتصدّرها أربعة على الأقلّ: - فالوضع الراهن لا يزال يلملم جراحه بنتيجة ما حلّ في العقدين الماضيين وما أفضت إليه هزيمة الثورات،
- والمدن، وآخرها الخرطوم، يستولي عليها الخراب فيما الطبقات الوسطى تنهار ويتنامى الفقر ويتعاظم اللجوء،
- والشرطان الإقليميّ والدوليّ غير مشجّعين بتاتاً،
- وأخيراً، لا يزال يُبدّد جزء من الطاقة التغييريّة في معارك لا معنى لها حول «الماضي الإمبرياليّ» وأشباهه.
نعم، الطريق صعبة وشائكة وطويلة، لكنّها الطريق الوحيدة إلى غد لائق!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن نظريّات التغيير السائدة  عن نظريّات التغيير السائدة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 16:35 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الجيش الإسرائيلي يتخبّط في "أزمة حادة"
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يتخبّط في أزمة حادة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon