توقيت القاهرة المحلي 17:06:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كارل يونغ في خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء

  مصر اليوم -

كارل يونغ في خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء

بقلم -حازم صاغية

كثيراً ما نسمع، أو نقرأ، رجلاً عربيّاً يمدح رجلاً عربيّاً آخر بقوله: «إنّه رجل رجل». لكنّ المادح ربّما فاتَه أنّه بعبارته هذه يهين المرأة ويحقّرها. ذاك أنّ الرجل يُفترض أنّه يمثّل الجنس الذي يقابل الجنس الذي تمثّله المرأة، فحين يتمّ التشديد على كون الممدوح رجلاً، فالمعنى أنّه ليس امرأة، بل إنّه ليس امرأة على نحو مضاعف، بما يزيل كلّ غموض قد يؤدّي إلى خلطه بطرف أدنى منه وأقلّ.
وككلّ تمييز، يقيم الخطأ عميقاً في هذا التمييز، أو أنّ هذا على الأقلّ ما نفهمه من كارل يونغ الذي كان أوّل تلاميذ فرويد وأوّل المنفضّين عنه بسبب رفضه التعويل الفرويديّ على الجنس حافزاً للسلوك، كما بسبب تحفّظه على مفهوم أستاذه في اللاوعي. هكذا انصرف يونغ، بعد انشقاقه، إلى ما أسماه «علم النفس التحليليّ» وإلى تطوير نظريّته وتجاربه في «اللاوعي الجمعيّ».
وكان من «الأنماط الأصليّة» (archetypes) التي اكتشفها المحلّل النفسيّ السويسريّ المذكور «الأنيما» و«الأنيموس». فـ«الأنيما» لغةً مشتقّةٌ من اللاتينيّة، وتعني نسمة الهواء كما تعني الحياة أو النفْس، فيما تعني «الأنيموس» العقل كما تعني العدوانية والضغينة، بما يردّ إلى الـanimosity .
لكنّ ما هو أبعد من الدلالة اللغويّة أنّ هذين العنصرين الجنسيّين، اللاواعيين تعريفاً، إنّما يقيمان في «نمط أصليّ» آخر هو ما أسماه يونغ «الظلّ» (the shadow)، أو «الجانب المُعتم والمجهول من الشخصيّة»، والذي لا بدّ من اختراقه لفهم الكائن الذي يقف وراءه، وإن كان استعداد «الظلّ» لمقاومة الاختراق كبيراً جدّاً.
و«الأنيما» و«الأنيموس» ملمحان متضادّان داخل العالم الشخصيّ للفرد. فـ«الأنيما» الأنثويّة تقيم في الذكَر، فيما «الأنيموس» الذَكَريّ يسكن الأنثى. وكما تغدو «الأنيما» شخصنة لكلّ ما هو أنثويّ في الذكر، تغدو «الأنيموس» شخصنة لكلّ ما هو ذكريّ في الأنثى. وهما، في آخر المطاف، يشكّلان جزءاً من اللاوعي الجمعيّ، وظيفته ربط صاحبه أو صاحبته بأعماق عالمهما النفسيّ. لكنّ صعوبة إدراك هذه العمليّة تعطي الأحلام والفانتازيا دور الطريق التي لا بدّ من سلوكها.
وكان برونو بتلهايم، عالم النفس النمساويّ الشهير، قد كتب أنّ يونغ سبق أن اكتشف «أنيماه» في الطبيبة والمحلّلة النفسيّة الروسيّة سابينا نيكولاييفا سبيلراين التي كانت تلميذته ثمّ زميلته، قبل أن تربط بينهما علاقة حميمة. و«بفعله هذا، شكّل فكرتَه عن الدور بالغ الأهميّة الذي تلعبه الأنيما في حياة الرجل. فسابينا سبيلراين، إن لم تكن مصدر المفهوم، فإنّها بالتأكيد الشخص الذي مثّل الإلهام لمفهوم الأنيما».
ومع أنّ فهمنا للجنس وللجندر تغيّر كثيراً عمّا طرحه يونغ من نظريّات في محاولته «فهم أنفسنا»، يبقى أنّ مبدأ الثنائيّة هذا لا بدّ أن يفيد في معرفة شخصيّاتنا والعمل معها بانسجام يوحّد عناصرها المتنافرة. فالأثر السلبيّ الأهمّ الذي ينجم عن تقسيمنا تكوينَنا النفسيّ إلى جزأين مختلفين، أي هويّة جندريّة خارجيّة وأخرى داخليّة لا واعية، هو إهمالنا للهويّة اللاواعية وقمعها. هكذا ترتدّ علينا الهويّة المقموعة بما يؤذينا لأنّ «ما تقاومه يبقى» بحسب يونغ. فهنا أيضاً، لا تفعل المقاومة غير تضخيم المشاكل التي ينفيها صاحبها رافضاً مواجهتها. وتجنّباً لهذا الصراع بين مكوّنات الشخص الواحد، ينبغي عدم الاقتصار على الاعتراف بالجزء المخبّأ، بل تقبّله أيضاً، لأنّه مع كلّ تثبّت في موقفنا السلبيّ والمعذَّب، وربّما المكتئب، تزيد مقاومتنا لحلّ المشكلة، إمّا تصغيراً لها أو إنكاراً للحدث برمّته أو لوماً للآخرين أو بذلاً لجهد مجّانيّ هدفه تغيير أناس بعينهم وتوهّم ردّهم إلى ما نظنّه الصراط المستقيم. ولأنّ الاعتراف بوجود المشكلة، أي بالواقع، هو الخطوة الأولى للعلاج، فإنّ إحلال التناسق بين الأجزاء المتنافرة يسهّل التعامل بين الجنسين ويجعله أغنى وأجمل. لكنّه، من ناحية أخرى، يصلّب قدرتنا النقديّة في تعاملنا مع تكويننا النفسيّ، بحيث نغدو أشدّ إدراكاً لمَن نحن فعلاً، ونتيقّن بالتالي من أنّ قدرتنا على الضبط والسيطرة محدودة جدّاً بقياس تكويننا النفسيّ مترامي الأطراف.
لكنّ المشكلة مع نظريّة يونغ تتعلّق بالصفات الجوهريّة التي تنمّ عن وعي تنميطيّ في زمن كان يستهويه التنميط. فاختيار «الأنيما» للنساء و«الأنيموس» للرجال يفترض أنّ الرقّة والنفْس صفات أنثويّة بالمطلق، فيما العقل والعدوانيّة صفات ذكوريّة بالمطلق.
وحتّى قاموسيّاً، تمثّل «الأنيما» «المواصفات الأنثويّة الكونيّة»، مقابل «الأنيموس» الذي يمثّل «المواصفات الذكريّة الكونيّة». فالأولى إذ تقيم في الرجل تصبغه برغبات أنثويّة هي تعريفاً سلبيّة، كحال طفل ينكفئ إلى الداخل باحثاً عن الحماية وحضن الأمّ، أمّا الثاني إذ يقيم في المرأة فإنّما يتأدّى عن ذلك انتقال بعض عقلانيّة الرجل وعمليّته واجتماعيّته الخارجيّة إليها. فإذا صالح الرجل أنيماه ودمجه فيه، تحوّل شخصاً ألطف وأكثر رقّة وتعاطفاً، أمّا إذا صالحت المرأة أنيموسها ودمجته فيها، تحوّلت أشدّ توكيداً ذاتيّاً واكتسب رأيها صوتاً أعلى، كما نمت قدرتها على التأمّل والتعلّم والتداول مع الآخرين.
ولم يكن يونغ نفسه مقتصداً في كشف الفوارق «الجوهريّة» هذه، فوصف «المبدأ الذكريّ» بـ«اللوغوس»، قاصداً النزوع إلى المنطق والصياغة اللفظيّة المُحكمة، ووصف «المبدأ الأنثويّ» بـ«الإيروس»، لجهة التعويل على العواطف والعلاقات التي تنجرّ عنها. ومنعاً لآخر سوء فهم ممكن، اعتُبر اللوغوس أبويّاً والإيروس أموميّاً.
هكذا بات في وسعنا أن نضع صفات لا تتغيّر تحت اسمي «رجل» و«امرأة»: فتحت الرجل، نضع التركيز الشديد على النفس والعقلانيّة والاهتمام بالعالم الخارجيّ والعدوانيّة، وتحت المرأة، نقرأ العاطفيّة والانكباب على الداخل والآراء اللاعقلانيّة وتغليب الاعتبارات الشخصيّة.
لقد عُرف عن يونغ تأييده حقّ المرأة في الاقتراع، لكنّ ميله إلى تنميطها وحبسها في بضع معادلات جامدة سلبها حقوقاً أخرى، فضلاً عن مصادرته التاريخ وأطواره وتحوّلاته. فإذا أضفنا ما اعتبره نقّاده «ماهويّة ميتافيزيقيّة» و«نزعة روحانيّة» تسم مدرسته التحليليّة، بتنا أمام وجه مظلم لليونغيّة يقابل وجهها المشرق الذي يعلّم أنّ المسافة الفاصلة بين الرجل والمرأة أقصر كثيراً ممّا يُظنّ.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كارل يونغ في خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء كارل يونغ في خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 16:21 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت
  مصر اليوم - أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon