توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بالعودة إلى حرب العراق

  مصر اليوم -

بالعودة إلى حرب العراق

بقلم - حازم صاغية

سنعيش طويلاً مع حرب العراق في 2003 بوصفها حدثاً تأسيسيّاً. ذكراها العشرون، قبل أيّام، تنضاف إلى ألبوم الذكرى المتضخّم، أو «ألبوم الخسارة» إذا استعرنا عنوان رواية لعبّاس بيضون. ومادّة الألبوم، عراقيّة كانت أم فلسطينيّة أم غير ذلك، تُبكينا كلّما مرّ عام أو عقد، وتعاود إبكاءنا بلا انقطاع، فنلعن القدر ونتسمّر عند سرديّة مطلقة واستضحائيّة، مكرورة ومضجرة.
أغلب الظنّ أنّ هذا الحدث، وأكثر من سواه، أقلُّ أحداثنا تقبّلاً للمحاكمة بالأبيض والأسود. وبعيداً من التأويل الأحاديّ والمغلق للمفاهيم، فإنّه غزو واحتلال، وفي الوقت ذاته عمل تحريريّ.
الذين يغفلون الحقيقة الأولى يعدوننا بعلاقات دوليّة لا يحكمها القانون، تكتفي بالاستناد إلى غطاء شرعيّ كاذب من النوع الذي قدّمه كولن باول يومذاك. هذه هي العلاقات التي يستطيع بموجبها الأقوى أن يفعل ما يشاء بالأضعف، ومعادلة كهذه يُفترض ألاّ تكون مقبولة، أخلاقيّاً وسياسيّاً، من حيث المبدأ.
أثرُ ذلك تجاوزَ العراق إلى مبدأ التدخّل الذي حُرمت منه بلدان أخرى تقارع طغاتها، وكانت له مساهمته الكبرى في الانكفاء الغربيّ. هكذا جاء الانسحاب من العراق دعوة لإيران كي «تملأ الفراغ»، وبهذا استعادت المنطقة التنازع السنّيّ – الشيعيّ بزخم يفوق ما كان عليه في عهد صدّام إبّان الحرب العراقيّة – الإيرانيّة. ومن ناحية أخرى، وهو أيضاً ما ساهم في تأجيج النزاع المذهبيّ، أنّ المغامرة العراقيّة عوّضت تنظيم «القاعدة» عن فقدانها أفغانستان بأن أهدتْها العراق.
إلى ذلك تراجعت ثقة المنطقة بالديمقراطيّة، وهي أصلاً ثقة مهزوزة، كما تراجعت ثقتها، المهزوزة أيضاً، بالقانون الدوليّ الذي استُكمل استضعافه الأميركيّ باستضعاف القانون على عمومه. هكذا حُكم العراق بقوّة الإجراء البيروقراطيّ البارد والمتجبّر، فكان سجن أبو غريب ومعسكر بوكا وفظائعهما. وإذ ترافق الاحتلال مع شيوع أفكار الخصخصة، فُتح الباب واسعاً لعصابات من النصّابين المسلّحين العابرين للحدود والمدعومين بقوى كبرى.
في المقابل، فالذين يغفلون الحقيقة الثانية، حقيقة التحرير، يعدوننا بما هو أسوأ: فنحن نتحدّث عن نظام لم يُنتخَب أصلاً، لكنّه استمرّ 35 عاماً مارس خلالها كلّ أنواع القهر والجريمة، بما فيها قصف شعبه بالسلاح الكيماويّ، وغزو بلد جار مسالم. مع هذا فإنّه لم يسقط. والحال أنّ من الصعب جدّاً أن تسقط أنظمة كنظام صدّام من الداخل، على ما تقول تجارب لا تُحصى.
أسوأ من ذلك أنّ تجاهل الوجه التحريريّ لا يعبأ بحقيقتين أخريين: أنّ غابة التوحّش التي أقامها نظام كنظام صدّام تقزّم كلّ غابة قد يقيمها غزو خارجيّ، فيما تنمّ الاستهانة بحدث كسقوط نظام شبه توتاليتاريّ عن مدى الضعف الهائل في الحساسيّة الديمقراطيّة لمن يستهينون.
فمن حيث المبدأ ليس تفصيلاً أن تُجرى انتخابات وتؤسَّس أحزاب وصحف وأن تتمتّع أقلّيّة كبرى كالكرد بدرجة معتبرة من الحرّيّة في ظلّ نظام فيدراليّ. وليس من المبالغة ربط الحدث العراقيّ، الذي أسقط أحد أنصاف الآلهة، بانتفاض شعوب عربيّة كثيرة أرادت، بعد أقلّ من عقد، إسقاط أنصاف آلهتها.
نفي هذه المعاني باللجوء إلى خطبة فقيرة عن مجد العراق ووحدته قبل التدخّل الأميركيّ، واللذين لم يخرّبهما إلاّ ذاك التدخّل، كان مدعاة للرثاء ولا يزال. تكفي معرفة أوّليّة جدّاً بتاريخ العراق الحديث، وتاريخ المشرق العربيّ الحديث، لتبيان أنّ تلك الخطبة تمرين على الكذب.
أين يستقرّ التوازن بين معنى الغزو ومعنى التحرير، وما الذي يقرّر تغليب إحدى الكفّتين على الأخرى؟
أغلب الظنّ أنّ الجواب يكمن في مسؤوليّة العراقيّين أنفسهم. والبائس، هنا، أنّ الحصيلة لم تكن سبباً للاعتداد.
فمنذ البدايات الأولى، كان اجتثاث البعث وحلّ الجيش مطلبين شيعيّاً وكرديّاً أكثر منهما مطلباً أميركيّاً. وكانت المقاومة المدعومة من أنظمة كالنظامين الإيرانيّ والسوريّ، وكان استهداف المسلّحين السنّة للشيعة ردّاً على تأويل الحدث الكبير بوصفه إطاحة شيعيّة للسنّة، وهو جميعاً ما تُوّج بحرب 2006 الأهليّة. وهذا قبل أن تنشأ «داعش» وتستولي على الموصل وتقيم «دولتها».
وفي هذه الغضون، أُهدي العراق لإيران، وطُيّفت السياسة بالكامل فباتت الانتخابات نفسها مباراة في الاستقطاب الطائفيّ، فيما احتمى الفساد الفلكيّ بالولاء للجماعة المذهبيّة وبتوسيع «حصّتها». وأخيراً جاءت انتفاضة 2019 لتقطع بأنّ أيّ عمل وطنيّ مشترك يجمع السنّة والشيعة، والعرب والكرد، بات من الماضي الميّت.
ضعف مسؤوليّة العراقيّين وانكشاف أنّهم لم يكونوا جماعة سياسيّة وطنيّة كمّلهما ضعف مسؤوليّة المنطقة التي كان اقتراحها العمليّ للعراق تركَه يتعفّن، وترك الأميركيّين يتعفّنون فيه، فلا تفشل تجربته الجديدة ولا تنجح.
اليوم نرى شيئاً من هذا في المأساة السودانيّة الراهنة، والسودان، في حدود علمنا، لم يتعرّض لاحتلال. فإمّا أن نقول إنّ عمر البشير ما كان ينبغي أن يطاح، وكذلك صدّام حسين ومعمّر القذّافي وزين العابدين بن علي...، أو أن نفكّر على نحو أعمق، وأكثر جذريّة، في علاقة منطقتنا بالعالم، وبنفسها، بما في ذلك الأنظمة التي تعاقبت عليها وتتعاقب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بالعودة إلى حرب العراق بالعودة إلى حرب العراق



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon