توقيت القاهرة المحلي 20:16:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اقتراحات أوروبيّة نبيلة لأزمنة الحرب

  مصر اليوم -

اقتراحات أوروبيّة نبيلة لأزمنة الحرب

بقلم - حازم صاغية

إذا كانت الحروب مآسي، فهي أيضاً فُرَصٌ وتحوّلات. لهذا يؤرَّخ بالحروب، لا سيّما الأوروبيّة، من تلك النابوليونيّة إلى الحرب العالميّة الثانية، بوصفها انتقالاً من عالم إلى عالم، ومن أنظمة وعلاقات وثقافات وفنون إلى أخرى. وحدها المجتمعات الراكدة والاستبداديّة هي التي تبقى بعد الحروب كما كانت قبلها، فتنحصر الحرب فيها بكونها فعلاً عسكريّاً محضاً.

اليوم، هناك كلام أوروبيّ كثير عن تحوّلٍ لا بدّ أن يشقّ طريقه في أوروبا بنتيجة الحرب على أوكرانيا، وبفعل ما قد يتحوّل، بحسب ما ينذرنا به البعض، إلى حرب عالميّة ثالثة. التحوّل هذا، كما يرسمه دُعاته الأصدق، هو ما يفضي إلى اجتراح هويّة أوروبيّة جديدة لُحمتها العداء للاستبداد والديكتاتوريّة، هويّةٍ تسكنها قيم تنحاز إلى الضعفاء والمظلومين، فيما تكون قليلة الحفول بفوارق القوميّة والدين والإثنيّة.
فعل ذلك ليس مستحيلاً، لكنّه بالتأكيد أصعب من قوله.
الأسطر التالية تستعرض أفكاراً واقتراحات صدرت عن أصوات نبيلة تريد لأوروبا تلك أن تنشأ، لكنّها تشير، بالإلحاح نفسه، إلى بعض الشروط الضروريّة لتلك النشأة. وإذا كانت بريطانيا أكثر البلدان التي تنطبق عليها الأوصاف والعلاجات أدناه، فإنّ أوروبا في عمومها معنيّة بها ولو بنسب متفاوتة.
فاقتصاديّاً وتنظيميّاً، طرح فتح الأبواب العريضة أمام الأوليغارشيّين الروس، ثمّ الانقضاض على أموالهم بعد نشوب الحرب، المشكلة التالية: إنّ هذه الأموال بشرائها مواقع وحصصاً أساسيّة في الاقتصاد (عقارات، مصانع، نوادٍ رياضيّة...) كانت توفّر أداة للالتفاف على العجز التجاريّ الذي بات يبلغ في بريطانيا 323 بليون جنيه استرلينيّ، أو 15 في المائة من إجماليّ الناتج المحلّيّ. وعلى رغم نموّ قطاع الخدمات، فإنّ عوائده لم تعد كافية لسدّ الفارق، البالغ 140 بليوناً، بين الصادرات والواردات لمصلحة الثانية. ولأنّ العجز، الذي ترجع بواكيره إلى أوائل الثمانينات، ناتج عن طريقة في الحياة تفتقر إلى مستلزماتها، فقد أتاح التعويل على تدفّق المال الروسيّ الاستمرار في نمط الاستهلاك هذا، بحيث بات التخلّص من هذا المال جزءاً من مهمّة أعرض هي الانتقال من اقتصاد نيوليبراليّ إلى اقتصاد ليبراليّ ذي حساسيّة اجتماعيّة.
لكنْ إلى ذلك، يفتح وقف الاعتماد على النفط والغاز الروسيّين فرصة تاريخيّة لإحداث نقلة في تطوير التقنيّات البديلة، وهو ما يُعَدّ مسألة بيئيّة حسّاسة، فضلاً عن دوره في تحصين الأمن الاقتصاديّ للبلدان الأوروبيّة. بهذا المعنى، لا يبدو اللجوء إلى فنزويلّا مادورو، على ما أوحت الولايات المتّحدة، أو ربّما إيران خامنئي فيما لو أعيد العمل بالاتّفاق النوويّ، حلّاً ناجعاً على المدى الأبعد، وهو بالطبع لا ينسجم مع طبيعة المعركة ضدّ نظام كالنظام الروسيّ.
من ناحية أخرى، تستنفر الحروب حسّ التضحية والتضامن، ما يتجلّى في العلاقة باللاجئين الأوكرانيّين وضرورة فتح الأبواب أمامهم، إلاّ أنّه يطال أيضاً التضامن داخل المجتمعات الأوروبيّة نفسها. ذاك أنّ رفع الموازنات الحربيّة الذي نفّذته بلدان عدّة، كما بات مطلباً واسعاً لبلدان أخرى، ينبغي أن يتحصّل من رفع الضرائب على الأغنياء، قبل أن يمتدّ إلى خفض التقديمات لمن هم أفقر حالاً. ولسوف يكون مُستهجَناً، خصوصاً في زمن حربيّ، المضيّ في التقتير على مؤسّسات كـ «بي بي سي» وخنقها، فيما هي أعلى أصوات التأثير البريطانيّ في العالم.
لقد هدّدت الرشى الروسيّة التي قُدّمت لسياسيّين غربيّين الديمقراطيّةَ نفسها وطرقَ اشتغالها، لكنّ معركة الديمقراطيّة هي أيضاً معركة نموذج. هذا ما يستدعي القدرة على عدد من عمليّات التمييز والتوحيد. فهناك، أوّلاً، التمييز، ما أمكن ذلك في زمن حربيّ، بين فلاديمير بوتين ونظامه وأوليغارشيّيه وبين الروس من ضحاياه بحياتهم ومصالحهم وثقافاتهم وما يرمزون إليه.
وهناك، ثانياً، ضرورات التوكيد على «وحدة الحضارات»، ضدّاً على «صراع الحضارات» الذي انفجر التعويل عليه بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فوجهة كهذه هي التي تؤول إلى محاصرة السلوكات العنصريّة والتمييزيّة حيال «المختلفين في ألوان عيونهم وشَعرهم»، والتي رأينا بعضها في الأيّام الأخيرة. وأخيراً، ثمّة حاجة إلى إعادة النظر في «الحرب على الإرهاب» - ذاك المفهوم الذي أفضى إلى تحالفات موضعيّة مع بوتين وسواه من طغاة أصغر حجماً، مموِّهاً الصراع الفعليّ في عالمنا اليوم، ومؤدّياً إلى التغاضي عن الانتهاكات الروسيّة والسوريّة وسواها في مناطق كثيرة من العالم.
ويبقى، بالنسبة إلى بريطانيا تحديداً، التراجع عن المسار الذي توّجته بريكست في 2016. فالبريطانيّون اكتشفوا أنّ مصائرهم، في المنعطفات الصعبة، وفي الدفاع كما الاقتصاد، تكمن حصراً في أوروبا ومعها. إنّ هذه الأوروبيّة الإنسانيّة والتقدّميّة، وذات البُعد الأطلسيّ، هي الردّ الأقوى على البوتينيّة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اقتراحات أوروبيّة نبيلة لأزمنة الحرب اقتراحات أوروبيّة نبيلة لأزمنة الحرب



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:55 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد مكي يخلع عباءة الكوميديا في رمضان 2025

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 00:03 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

بايدن يُكرم ميسي بأعلى وسام في أمريكا

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 13:37 2020 الأحد ,24 أيار / مايو

الفيفا يهدد الرجاء المغربي بعقوبة قاسية

GMT 12:48 2020 الثلاثاء ,19 أيار / مايو

أسعار الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 19 مايو

GMT 16:51 2020 الثلاثاء ,31 آذار/ مارس

إصابة طبيب رافق بوتين في جولة "فيروس كورونا"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon