توقيت القاهرة المحلي 20:18:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كيف حاكمت هنه أرنت الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة؟

  مصر اليوم -

كيف حاكمت هنه أرنت الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة

بقلم - حازم صاغية

في 1963 أصدرت عالمة السياسة الألمانيّة – الأميركيّة هنه أرنت كتابها «في الثورة»، والذي ركّز كثيرون على مقارنته بين ثورتي القرن الـ18، الأميركيّة والفرنسيّة، علماً بأنّه أكثر من ذلك.

فهي تؤكّد أنّ هدف الثورة كان ولا يزال الحرّيّة، والمقصود تحديداً الحرّيّة السياسيّة المغايرة لما تسمّيه مفهوماً فلسفيّاً وداخليّاً للحرّيّة أو إرادة حرّة لا تكفي لتحرير صاحبها. فالحرّيّة عندها شأن عامّ، وقد وجدت قبل أن يجعلها بولس والقدّيس أوغسطين قضيّة فلسفيّة.

والحرّيّة هذه استعرضت نفسها مع الدولة المدينة الإغريقيّة التي تبقى محطّة مرجعيّة لأرنت، ثم لاحقاً مع الثورة الأميركيّة، ومع بدايات كثيرة لم يُكتب لها الاستمرار كبدايات الثورة الفرنسيّة وكوميون باريس ومجالس الثورة الروسيّة وحركة سبارتاكوس الألمانيّة وثورة 1956 الهنغاريّة وحركة الحقوق المدنيّة الأميركيّة. فالحرّيّة العامّة ومجالسها المنتخبة هي «الكنز المفقود» و«الروحيّة الثوريّة» اللتان ينبغي استعادتهما.

الكتاب يتحدّث عن ثلاث ثورات، الأميركيّة والفرنسيّة وثورة المجالس التي انتهت نهايات تراجيديّة، لكنّها اعتبرت الأخيرة النموذج المتفوّق الذي يتيح للجميع المشاركة في تقرير مصير البلد، فيجد كلّ فرد في السياسة القاعديّة حيّزه الخاصّ للعمل (action) بوصفه متمايزاً عن أشكال أخرى من العمل.

فعبر تلك الهيئات يؤثّر المواطنون على الأجسام السياسيّة الأعلى، وعبر الفيدراليّة يُحَدّ من قوّة السلطة فتراقبها سلطة أخرى وتوازنها. فدولة المجالس تبقى الشكل الأقرب لحكم الشعب ذاتَه بذاته، عبرها ينظّم الناس أنفسهم عفويّاً بمعزل عن قيادة أو خطّة حزبيّة ما. وهذا إنّما يناقض الموديل الثوريّ للقرن العشرين حيث ثمّة خطّة تُفكَّر وتُنفَّذ ببرودة «علميّة».

وينبع تفضيل الثورة الأميركيّة من كونها ظاهرة سياسيّة تخلق حيّزاً عامّاً، فيما يؤدّي تصدّر المسألة الاجتماعيّة إلى تدمير السياسة. ولأنّ المسألة الاجتماعيّة لم تُطرح إلاّ لماماً في أميركا أمكن للثورة السياسيّة أن تتحقّق، وكان ما ساعدها أنّ الفقر وعدم المساواة ليسا كبيرين كما في أوروبا. فشساعة الأرض وإمكان تملّكها واستثمارها، تبعاً لغياب الإقطاع، لم يحوّلا فقر الفقراء إلى بؤس، فظلّوا أحراراً يحضرون الاجتماعات العامّة وينظرون إلى أنفسهم كمواطنين، أي كجزء من «العالم العامّ» (public world).

وأرنت لم تناوئ حلّ المسألة الاجتماعيّة، لكنّها حرصت على ألّا تحلّ محلّ المسألة السياسيّة، تمهيداً لمعالجتها عبر إصلاحات إداريّة. إلى ذلك عرفت أميركا ملايين العبيد ممّن لم يتملّكوا ولا تمتّعوا بالمواطنيّة وكانت نسبتهم أعلى من نسبة البائسين في فرنسا. ولئن اعتبرت أنّ تجاهل العبيد وجعلهم «غير منظورين» «الخطيئة الأصليّة» للثورة الأميركيّة، رأت أنّ ما حدَّ من الضرر هو بقاء الحرّيّة أمّ المسائل. هكذا أطلق الأميركيّون ثورة وسنّوا دستوراً هدفهما خلق عالم يستطيع مواطنوه أن يتصرّفوا ويتكلّموا ويكونوا أحراراً، فيما يضمن حرّيّتَهم نظامٌ يشجّع على التعدّد في مراكز القرار، وموقعٌ منزّه للمحكمة الدستوريّة يفصل مصادر القانون عن مصادر السلطة.

وإذ تبدي إعجابها بجون أدامز، فإنّها تعترف لجيفرسون بإدراكه أهميّة الحكم عبر المجالس، علماً أنّها تعترف أيضاً بأنّه لم يذكر المجالس إلّا عرَضاً في رسائل كتبها أواخر عمره.

لكنّ أرنت متشائمة في شأن مستقبل أميركا: فالأخيرة لم تنشئ مثل تلك المجالس لاحقاً، وبمجرّد أن أصبح الدستور وثيقة مكتوبة، لم تُخلَق مؤسّسات تزدهر بها الحرّيّة العامّة، فيما استُنزف الجهد كلّه في خلق مؤسّسات محافظة وتوطيدها، بحيث انتُزع ما كان للسكّان والهيئات المحلّيّة من سلطة. وعند أرنت، لا بدّ من ثورة غير عنفيّة متواصلة لتزييت آلة الحرّيّة وإبقاء المؤسّسات وفيّة لزمن الثورة الأوّل ولتوسيع المشاركة الشعبيّة.

في المقابل، تغيّرت بؤرة التركيز في سياق الثورة الفرنسيّة: فبدل التحرّر من الطغيان حلّ التحرّر من الحاجة. وبوقوع الثورة في هذا «الفخّ»، انتهى ما بدأ طلباً للحرّيّة موضوعاً اجتماعيّاً.

هكذا أضاعت الثورة الفرنسيّة هدفها بتحويلها حقوق الإنسان إلى حقوق «غير المتسرولين» (sans culottes) الأفقر، وهو نفسه ما آل بالثورة الروسيّة إلى العنف وتسبّب بإخفاقها.

والفرنسيّون كانوا فقراء قياساً بالأميركيّين، مع هذا فبداية ثورتهم عرفت تنظيمات جمهوريّة وانتخاباً لضبّاط وقيادات وإنشاءً لبُنى المشاركة الشعبيّة. بيد أنّ هذه الظاهرات ما لبثت أن تصادمت مع حكومة الثورة حول نقاط عدّة، في عدادها «إنهاء الفقر» ممّا لا يمكن تنفيذه. ولئن اعترفت أرنت لروبسبيير ببعض الحقّ والواقعيّة، فقد أخذت عليه رغبته في إلحاق الجماعات المنتخبة ومنظّمات المشاركة المفتوحة باليعاقبة وبالحكومة، وإصراره على المركزيّة ضدّاً على فيدراليّتهم وتعدّديّتهم التمثيليّة. لكنْ، وكما في سائر التجارب، هزمت الحكومةُ المجالسَ في واقعة مأساويّة أخرى.

فعداء أرنت لأولويّة مسألة الفقر حادّ وقويّ. فهذا ليس كلّ ما يحتاجه الناس، بل ليس كلّ ما يريدونه، وهدف الفقراء ليس «لكلّ حسب حاجته» بل «لكلّ حسب رغبته»، وبالمعنى نفسه فالشيوعيّة ليست سيّئة بسبب فشلها في تحقيق الازدهار بل لاستبدادها وتقويضها الحرّيّة.

لقد كسرت أرنت احتكار التأويل اليساريّ للثورة، وخرجت بنظريّة ليبراليّة عنها، وإن كانت غير متّفق عليها بين الليبراليّين. وهي نظريّة قابلة للجدل، يخفّف من وهجها أنّ تجارب المجالس كلّها، وبأشكال مختلفة، أخفقت، بينما يعزّزها ويقوّيها ذاك الإلحاح الراهن على ضرورة إعادة اختراع التمثيل الديمقراطيّ الشائخ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كيف حاكمت هنه أرنت الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة كيف حاكمت هنه أرنت الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:13 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة
  مصر اليوم - زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة

GMT 18:02 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم "الدشاش"
  مصر اليوم - محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم الدشاش

GMT 22:20 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 22:21 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

عباس النوري يتحدث عن نقطة قوة سوريا ويوجه رسالة للحكومة

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 06:04 2024 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 31 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 14:18 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

من أي معدن سُكب هذا الدحدوح!

GMT 21:19 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تربح 7.4 مليارات جنيه ومؤشرها الرئيس يقفز 1.26%

GMT 21:48 2020 الأحد ,04 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon