توقيت القاهرة المحلي 07:59:51 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أطفال الحضانة اللبنانيّة

  مصر اليوم -

أطفال الحضانة اللبنانيّة

بقلم - حازم صاغية

في اليونان القديمة لعب الإقناع دوراً كبيراً في الحياة العامّة، ما يعني استطراداً أنّ التفكير لعب دوراً كبيراً. فبسبب إنشاء الإغريق الديمقراطيّةَ المباشرة وهيئةَ المحلّفين في المحكمة، بات الطلب حادّاً على الحجج التي يستخدمها مواطنو أثينا في مداولات الساحة العامّة (الآغورا)، كما يستخدمونها تبرئةً لأنفسهم إذا طال أحدَهم اتّهامٌ ما. ولئن كان سقراط يجوب شوارع أثينا وحاراتها كي يقنع الناس بما يراه الصواب، فإنّ خصومه السفسطائيّين تحوّلوا باعةً جوّالين لتعليم الحجج والإقناع، وعن ذلك كانوا يتلقّون مقابلاً ماليّاً.

والحال أنّ أكثر ما يلغي الحاجة إلى الإقناع، أي إلى التفكير، هو حيث الصواب والحقيقة معروفان سلفاً، وحيث لا قيمة لما يتوصّل إليه تفكير الأفراد وتجاربهم. في مثل تلك الأحوال يكون هناك أبٌ أعلى يرسم من عليائه ما يجوز وما لا يجوز، وتكون هناك فكرة آمن بها ذاك الأب واستولى على السلطة انتصاراً لها، وبها راح يُفتي في الكبيرة والصغيرة: من الزراعة إلى الصحّة ومن السينما إلى السياسات الدفاعيّة، من دون أن ننسى جمع النفايات...

ونحن في لبنان عرفنا شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك. فقبل 1975 شرعت فئات معتبرة من السكّان تتخلّى عن أفكار طوائفها وتعتنق أفكاراً غير طائفيّة. وعمليّةٌ كهذه كانت تنجم عن تفكير ومجادلة واقتناع وقراءة كتب ومعرفة بالعالم الخارجيّ. هؤلاء، بالتالي، كانوا يغلّبون الخيار الحرّ على الوراثة الناجزة، كما يغلّبون العقل على العصبيّة. لكنْ بفعل الحروب التي ضربت الدولة والمجتمع، ومعها الفرز السكّانيّ الذي أنتجه التهجير والتوجّه نحو الصفاء الطائفيّ، ضمرَ الخيار والتفكير الحرّ لصالح الولاء الموروث الجاهز، واستذكرت كلّ جماعة «جذورها» وتمسّكت بها، وبها وحدها. إذ مَن الذي يحمي الفرد ويُعيله إن تجرّد من أهله أو تجرّأ عليهم؟ بعدذاك لم تعد «النصيحة بجمل»، كما قالت العرب قديماً. فأحدٌ لم يعد بحاجة إلى نصيحة إذ الحكمة كلّها مقيمة في بيتنا.

مع هذا بقيت هناك فئة صغرى شاءت أن تفكّر وتختار بدل أن تتبع وترث وتتلقّى. وهؤلاء أفراد وليسوا جماعة، أفرادٌ تأثّروا إيجاباً بالتجارب المتقدّمة في العالم بقدر ما تأثّروا سلباً بالتجارب السقيمة في بلدهم، فانحازوا لاقتصاد بلا فساد، ولسياسة بلا تنفيعات، ولثقافة بلا تبجيل زائف، ولقضاء بلا استزلام، كما انحازوا ضدّ تدخّل الطوائف في الحياة العامّة، وضدّ ازدواج السلاح المعطِّل للدولة وللقوانين. وهم، بطبيعة الحال، تمسّكوا بالحرّيّة لأجسادهم وبالحرّيّة لعقولهم في آن معاً.

هؤلاء «يُعالَجون» اليوم بالنهج الآخر الذي شهد ولادته الأولى مع الحرب، أي بإحكام السيطرة على عقولهم وأجسادهم، وباعتماد التلقين بدلاً من الحجّة والمجادلة، وبتوكيد فضائل الثبات على الرأي إلى ما لا نهاية وتدعيمه بآراء تعود إلى أجداد الأجداد.

هكذا يبدو ما يحصل راهناً أشبه بإرجاع اللبنانيّين، وفي طليعتهم هؤلاء الشبّان والشابّات، من المرحلة الجامعيّة إلى مرحلة الحضانة. وفي صفوف الحضانة يُعلَّم الطفل أن يستيقظ باكراً ويغسل وجهه ويطيع أهله، على أمل أن تكرّر المدرسة والجامعة هذه «المعارف» إيّاها بطرق أشدّ حذلقة.

والحضانة في لبنان اليوم تملك إجابات شافية عن الأسئلة كلّها: ما هو السلوك المقبول وما السلوك غير المقبول، ومن هو الوطنيّ ومن غير الوطنيّ، وما المال النظيف وما المال غير النظيف، وكيف أنّ الاستشهاد هو المثال الأعلى لسلوك المجتمع (بوصفه مجتمعاً حيّاً بالتأكيد!).

وفي الحضانة هناك الناظر الذي لا يكفّ عن الصراخ في وجه أطفال يعوزهم التأديب، مهدّداً متوعّداً ومستخدماً بإفراط سبّابته التي لا تتعب. وكما يخاف أطفال الحضانة من تقطيب الناظر حاجبيه، يُفترض باللبنانيّين أن يخافوا من تقطيب ناظرهم الغضوب حاجبيه. فإن لم يفهموا مدى غضبه حضر في التلفزيون والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعيّ خبراء في إدراك سرّه المقدّس يفهمونهم ذلك.

لكنْ يبقى أنّ المعطيات والمعلومات التي يجري تلقينها لأطفال الحضانة إن لم تكن تافهة فهي مغلوطة، يغلّط بعضَها العلمُ ويغلّط الواقعُ بعضَها الآخر. وقد وجد الغلط هذا شخصنته المدهشة في وزير كُلّف العناية بالثقافة فإذا به لا أكثر من مساعد ناظر في الحضانة.

وفي غضون ذلك، علينا أن ننسى الكثير من الحقائق التي نعرفها كي تستقيم أمورنا كأطفال حضانة مثلما استقامت أمور الأطفال في بلاد كيم جونغ أون.

نعم، نحن الآن في الحضانة نبلي بلاء حسناً: إنّنا على وشك أن نعرف كلّ شيء. بعد قليل لن تكون لدينا حاجة إلى التفكير والمجادلة والاقناع والاقتناع. كلّ شيء محلول: إسرائيل عدوّ. أميركا عدوّ. إيران صديق. التعاليم السمويّة تفتح الأبواب كلّها في وجوهنا. نستيقظ باكراً، نغسل وجوهنا، نطيع أهلنا، ونفرشي أسناننا أيضاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أطفال الحضانة اللبنانيّة أطفال الحضانة اللبنانيّة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 06:28 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان
  مصر اليوم - تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان

GMT 11:22 2020 الأربعاء ,08 تموز / يوليو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 09:15 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

أهم 3 نصائح لاختيار العباية في فصل الشتاء

GMT 02:22 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"الزراعة" تؤكد البلاد على وشك الاكتفاء الذاتي من الدواجن

GMT 13:41 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

فيديو جديد لـ"طفل المرور" يسخر من رجل شرطة آخر

GMT 02:57 2020 الإثنين ,06 إبريل / نيسان

رامى جمال يوجه رسالة لـ 2020

GMT 02:40 2020 السبت ,22 شباط / فبراير

المغني المصري رامي جمال يحرج زوجته على الملأ
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon