توقيت القاهرة المحلي 09:21:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«حزب الله» والانقلاب اللغويّ في لبنان

  مصر اليوم -

«حزب الله» والانقلاب اللغويّ في لبنان

بقلم - حازم صاغية

هناك دائماً، وفي سائر العالم، أطراف سياسيّة وإيديولوجيّة تغلّب الدلالة السحريّة للكلمات على دلالتها المفهوميّة. مثلاً، بدل أن تقول: «استولى عشرون شخصاً على موقع عسكريّ»، نراها تقول: «استولت الجماهير على موقع عسكريّ»، وبدل أن تقول: «أُطلقت أعيرة ناريّة على المتظاهرين»، تقول: «حصدت النيران المتظاهرين»...

فالدلالة السحريّة التي يصعب قياسها وتستحيل برهنتها أقدرُ من الحقائق والوقائع على تعبئة الجموع وتحريكها. إنّها تفعل ذلك من خلال صور طبيعيّة أو هيوليّات وخوارق تُشعل المخيّلة الجماعيّة وتُبقيها مشتعلة. هكذا يتمّ تكريس الرواية الكاذبة، وقد أُخضعت للتسحير، في وعي مَن هم مستعدّون لتصديقها. وعن هذا الدفق اللغويّ الكاذب والمُكرَّس ينشأ جوٌّ معبّأ مشحون يعامل الكذب بوصفه يقيناً ثمّ يمضي في تعميم هذا «اليقين» وتداوله.

اللبنانيّون الذين يحكّمون عقولهم ويعطون الأولويّة للمفهوميّ على الدلاليّ يحفظون لائحة كاملة من المصطلحات التي غُيّر معناها، إمّا بالمبالغة أو بالقلب الكامل، وذلك للوصول إلى هدف تعبويّ وإنشاء «يقين» كاذب.

مثلاً، في الخمسينات سُمّي رئيس الجمهوريّة كميل شمعون «انعزاليّاً»، أي أنّه يريد عزل لبنان عن محيطه في العالمين العربيّ والإسلاميّ. لكنّ شمعون كان يومذاك على صداقة وطيدة مع الأردن والعراق والسعوديّة والمغرب وتونس وتركيّا وإيران وباكستان...، وكانت خصومته تنحصر بمصر الناصريّة والضبّاط التابعين لها في دمشق.

الحجّة نفسها استُخدمت في الثمانينات ضدّ من أيّدوا العراق في حربه مع إيران، فسُمّي هؤلاء «انعزاليّين»، علماً بأنّ النظام السوريّ كان الطرف العربيّ الوحيد الذي أيّد إيران.

السياسيّ الراحل كمال جنبلاط سمّى نفسه ثمّ سمّاه آخرون زعيماً لـ «التقدّميّين الاشتراكيّين»، مع أنّه كان أكثر سياسيّي لبنان محافظةً وتقليديّة. وهو حين كان وزيراً للداخليّة في 1963، منع رقصة «التويست» الرائجة حينها، وأمر بترحيل الفنّان الفرنسيّ جوني هاليداي من لبنان. أمّا «اشتراكيّته» فكانت الغطاء اللفظيّ لبعض أكثر الأفكار والممارسات القروسطيّة والصوفيّة.

ومنذ طُرحت فكرة الفيدراليّة في لبنان، وصفتها آلة التعبئة الكلاميّة بأنّها عمل يساوي التقسيم، مع أنّ المصطلح يعني تعريفاً «الاتّحاد». فالدعوة إلى الفيدراليّة، كما يعلم أيّ طالب للعلوم السياسيّة، إنّما تعادل الدعوة إلى الانتقال من وحدة بسيطة ومركزيّة إلى شكل مُركّب ولا مركزيّ من الوحدة.

على أيّ حال، فهذا التعامل مع اللغة بلغ ذروة غير مسبوقة على يد «حزب الله». فالأخير، ومثل تنظيمات دينيّة في بلدان أخرى، تمكّن من أن يزعم لنفسه أنّه حزبٌ لِما لا يقلّ عن الله ذاته. وهذا لا يُسبغ إلاّ التواضع على أحزاب سابقة كانت تقول إنّها أحزاب الطبقة العاملة أو أحزاب الأمّة والشعب...

كذلك استورد «حزب الله» من الأنظمة العسكريّة والأمنيّة العربيّة روايتها الشهيرة في تحويل الهزائم والكوارث إلى انتصارات مظفّرة.

ومع أنّه حزب دينيّ وطائفيّ في آن معاً، ومع أنّ قيادته تقتصر حصراً على رجال دين، فإنّه يقدّم نفسه، ويجد من يقدّمه، ضمانةً للوحدة الوطنيّة ومناهضة الطائفيّة. فوق هذا فهو كلّما استخدم السلاح في الداخل أكّد أنّ سلاحه ليس للاستخدام الداخليّ، وكلّما هجّر سوريّين دافعاً بهم إلى لبنان أكّد على تصدّيه للتكفير الإرهابيّ القادم من سوريّا. ومع أنّ حصريّة السلاح في يد الدولة جزء من أيّ تعريف للدولة الحديثة، فإنّه يقدّم نفسه، ويجد من يقدّمه، بوصفه سنداً للدولة وحليفاً لجيشها.

لكنّ أهمّ ما فعله الحزب، في ما يخصّ تدمير المعنى، هو أنّه أناط بنفسه حماية لبنان وتحريره وضمان كرامته وسلامه الأهليّ. والحال أنّ لبنان لم يعرف في تاريخه الحديث المهانة والفقر والذلّ الذي يعرفه اليوم في ظلّ المقاومة، وهذا معطوفاً على تحلّل في العلاقات الداخليّة بين أبنائه وداخل طوائفه، تحلّلٍ يجعل الحرب الأهليّة صنواً للحياة اللبنانيّة، من عين إبل جنوباً إلى الكحّالة جبلاً، صعوداً إلى نقاط شديدة التوتّر في جرود جبيل ثمّ في أقصى الشمال.

يزيد البؤس بؤساً أنّنا نعيش، لا سيّما في منطقتنا، زمناً يأبى الاعتراف برأي عامّ وببشر يفكّرون. هكذا مثلاً يعلن أمين عامّ «عصائب أهل الحقّ» العراقيّة الشيخ قيس الخزعلي أنّ الموساد الإسرائيليّ هو الذي قتل الإمام علي بن أبي طالب، وذلك بعد ثلاثة أيّام على تصريح الرئيس السوريّ بشّار الأسد بأنّ والده حافظ لم يكن له أيّ دور في وصوله إلى الرئاسة التي لم يبلغها إلاّ بجهده الشخصيّ والحزبيّ فحسب.

إنّ الشيوعيّين الذين أقاموا أنظمة الاستبداد الشهيرة في أوروبا الوسطى والشرقيّة وسمّوها «ديمقراطيّات شعبيّة»، لا يعصف بجثثهم إلاّ الحسد حيال روّاد هذا الانقلاب اللغويّ في منطقتنا، ممّن يتربّع «حزب الله» في صدارتهم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«حزب الله» والانقلاب اللغويّ في لبنان «حزب الله» والانقلاب اللغويّ في لبنان



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 06:28 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان
  مصر اليوم - تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان

GMT 11:22 2020 الأربعاء ,08 تموز / يوليو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 09:15 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

أهم 3 نصائح لاختيار العباية في فصل الشتاء

GMT 02:22 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"الزراعة" تؤكد البلاد على وشك الاكتفاء الذاتي من الدواجن

GMT 13:41 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

فيديو جديد لـ"طفل المرور" يسخر من رجل شرطة آخر

GMT 02:57 2020 الإثنين ,06 إبريل / نيسان

رامى جمال يوجه رسالة لـ 2020

GMT 02:40 2020 السبت ,22 شباط / فبراير

المغني المصري رامي جمال يحرج زوجته على الملأ
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon