توقيت القاهرة المحلي 19:52:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ديكتاتوريّو الفضيلة ومحو الماضي بتغيير الكلمات!

  مصر اليوم -

ديكتاتوريّو الفضيلة ومحو الماضي بتغيير الكلمات

بقلم - حازم صاغية

هل يحقّ لنا على ضوء حساسيّاتنا الراهنة أن نغيّر كتب التاريخ والأدب ونصوصها؟ هل يجوز مثلاً، باسم رفض العنصريّة، أن نستبدل الأوصاف التي أطلقها المتنبّي على كافور الأخشيديّ بأوصاف أخرى، أو أن نتخلّص من شخصيّة شايلوك عند شكسبير، وهل يجوز باسم العقل والعقلانيّة أن نحذف الساحرات من «مكبث»؟ ديكتاتوريّو الفضيلة الذين هم على حقّ، أو يظنّون أنّهم كذلك، ثمّ يريدون فرض هذا الحقّ على الواقع والتاريخ، يُجيزون أفعالاً من هذا القبيل.

روالد داهل، كاتب قصص بريطانيّ للأطفال، مات في 1990 وكانت آراؤه العامّة في غاية البشاعة، خصوصاً لا ساميّته الحادّة وبعض أوصافه الفظّة للنساء وللملوّنين. لكنّ كتبه باعت أكثر من 300 مليون نسخة، وتُرجمت إلى 68 لغة ولا يزال الأطفال يقرأونها على نطاق عالميّ واسع.

مع هذا أقدمت دار نشره البريطانيّة «بوفِّن بوكس» التابعة لـ «بنغوين راندوم هاوس»، على تغيير بعض الكلمات في كتبه بما يجعلها أشدّ توافقاً مع حساسيّاتنا ومع «الصواب السياسيّ»، وينقّيها من انحيازاتها ضدّ جماعات وفئات بعينها. كلّ ما يتعلّق بالوزن والسمنة، وبالصحّة العقليّة، وبالجندر والعِرق، غُيّرت. مثلاً، في كتابه «تشارلي ومعمل الشوكولا» المنشور في 1964، أُزيل تعبير «سمين بصورة ضخمة» ليصبح «ضخماً». في كتاب آخر عنوانه «ساحرات»، أُبدلت عبارة «مُحاسِبة في سوبرماركت أو طابعة رسائل لرجل أعمال» لتصبح «عالِمة رفيعة أو مديرة بيزنس»، وأزيلت كلمة «سوداء» من وصف للآلات يقول إنّها «سوداء ومجرمة ومسخ ذو مظهر متوحّش». عبارةٌ كـ «صرتَ أبيض كلوحٍ» صارت «صرت جامداً كتمثال». لكنْ بنتيجة الضجّة التي أثارها «تصويب» كتب داهل تبيّن أنّ كتباً لآغاثا كريستي وإيان فلِمينغ وسواهما تعرّضت لمَقصّ مشابه، وأنّ بعض دُور النشر في الولايات المتّحدة وبريطانيا صارت توظّف محرّرين يُعرفون بـ «قرّاء الحسـاسيّة» (sensitivity Readers) وهم، وفق تعريفهم المهنيّ، «قرّاء من خلفيّات معيّنة أو من ذوي تجارب حياتيّة خاصّة، يقرأون المخطوطات كي يساعدوا في إزالة التمثيلات (representations) الإشكاليّة والمؤذية».

وفضلاً عن السياسيّين الذين استنكروا هذا السلوك، رفع بعض المثقّفين البارزين أصواتهم المحتجّة. سلمان رشدي كان أحد المتدخّلين في السجال. فالأديب البريطانيّ الهنديّ، نائل جائزة بوكر، غرّد على تويتر: «روالد داهل لم يكن مَلاكاً، لكنّ هذه الرقابة سخيفة»، مضيفاً أنّ على الذين فرضوها «أن يشعروا بالخجل». ورشدي، كما بات معروفاً جيّداً، أكثر من دفع كلفة الحقّ في التعبير، إذ فقدَ عينه ولا يزال يتعافى من آثار الاعتداء عليه العام الماضي في نيويورك، فضلاً عن عيشه مُتخفّياً منذ فتوى الخميني الشهيرة في 1989.

مؤسّسة «القلم» (pen) في أميركا، التي تضمّ 7500 كاتب، اعتبرت ما يحصل مثيراً للذعر. السينمائيّ ستيفان سبيلبرغ قال كأنّه يصرخ احتجاجه: «إنّه تاريخنا. إنّه ميراثنا الثقافيّ»...

والحال أنّ ما يحصل ليس أقلّ من عدوان على التاريخ وتزوير للميراث الثقافيّ. فإذا سلكت تلك الرقابة طريقاً معبّدة، ولم تعترضها أيّة مقاومة، كانت النتيجة انتهاكاً صارخاً للإبداع بتحويله إلى أعمال مضجرة ضعيفة المخيّلة، واحدة الخطاب، وتشويهاً للماضي برمّته بما يعدم كلّ ثقة به وكلّ تعويل على أيّة وثيقة صلبة لمعرفته ودرسه. وهذا ما لا يختلف في شيء عن عمليّات «إعادة كتابة التاريخ» التي تُجريها أنظمة ديكتاتوريّة وتوتاليتاريّة، أو قصّ الصور على النحو الذي فعله ستالين حين تخلّص من صور تروتسكي وبلاشفة آخرين كانوا يقفون إلى جانب لينين. ومن يدري إلى أيّ مستنقع من الأكاذيب يمكن أن نصل مع الإمكانات التي باتت تتيحها تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ اليوم؟ لقد قال المدافعون عن هذه الرقابة إنّ هدفهم «حماية» الأطفال من التنميط الثقافيّ والإثنيّ والجندريّ في الأدب والأشكال الثقافيّة الأخرى. لكنّ الحماية عبر التجهيل والتزوير تُحوّل المجتمع كلّه إلى أطفال قُصّر بدل أن تحمي الأطفال. وهذا علماً بأنّ وظيفة «الحماية» يمكن أن يؤدّيها الأساتذة والأهل، فضلاً عن تجارب الحياة نفسها والدروس التي تُعلّمها. وقد يُرفَق النصّ الذي ينبغي «حماية» الأطفال منه بهوامش أو بملاحق تجلو الأمر، أو ربّما بملاحظات تشبه الملاحظات التي أضيفت إلى الطبعة الألمانيّة الأخيرة من كتاب «كفاحي» لهتلر. وهذه كلّها قد تكون مسائل خلافيّة وقابلة للسجال أو للتعديل، إلاّ أنّ ما لا ينبغي السجال فيه هو الرقابة والحذف وتغيير عبارات في النصّ الأصليّ «حمايةً» للأطفال. و»الأطفال»، منذ «جمهوريّة» أفلاطون على الأقلّ، هدف أوّل لديكتاتوريّي الفضيلة الذين يريدون إجراء التجارب عليهم بالاستفادة من ضعفهم وبدء التاريخ، مرّةً بعد مرّة، من صفر. ذاك أنّ التجارب والمعاني المتراكمة ليست لدى هؤلاء أكثر من تلوّثٍ يمكن التغلّب عليه بتغيير الكلمات!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ديكتاتوريّو الفضيلة ومحو الماضي بتغيير الكلمات ديكتاتوريّو الفضيلة ومحو الماضي بتغيير الكلمات



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 19:23 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

خروج مسلسل ظافر العابدين من موسم رمضان 2025 رسمياً
  مصر اليوم - خروج مسلسل ظافر العابدين من موسم رمضان 2025 رسمياً

GMT 10:53 2024 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

مدبولي يترأس اجتماع المجموعة الوزارية الاقتصادية

GMT 00:06 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

الأمير ويليام يكشف عن أسوأ هدية اشتراها لكيت ميدلتون

GMT 13:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

شام الذهبي تعبر عن فخرها بوالدتها ومواقفها الوطنية

GMT 01:05 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

النيابة العامة تُغلق ملف وفاة أحمد رفعت وتوضح أسباب الحادث

GMT 15:39 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

"المركزي المصري" يتيح التحويل اللحظي للمصريين بالخارج

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الزمالك يتأهل لربع نهائي دوري مرتبط السلة علي حساب الزهور

GMT 10:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز اتجاهات الديكور التي ستكون رائجة في عام 2025

GMT 22:30 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

5 قواعد لإتيكيت الخطوبة

GMT 14:43 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

أحمد مالك وطه دسوقي يجتمعان في "ولاد الشمس" رمضان 2025
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon