بقلم - جميل مطر
هل تذكر يا أبى إجازاتنا التى قضيناها فى منتجع الحمامات القريب من تونس العاصمة؟. أبى، لى مدة تهف على ذاكرتى جراسييلا مربيتنا؛ أخى وأنا خلال إقامتنا فى بيونس آيرس. لم ترفض لى طلبا طيلة مدة رعايتها لنا فى غيابكما. طلبت منها ذات يوم أن نلعب سويا فتقوم بتكتيفى بحبل طويل مع كرسى جاءت به من المطبخ وبناء على طلبى تضعنا، الكرسى وأنا، على مدخل البيت مباشرة وتذهب هى لتواصل عملها فى بقية أنحاء البيت. دخلت بمفتاحك لتجدنى أمامك وعيناى مغرورقتان بالدموع وصوتى المخنوق يستغيث بك لإنقاذى من الأشرار الذين «ما إن تخرج كل صباح إلا ويسرعون فى اختطافى وربطى إلى هذا الكرسى اللعين ويحرموننى من اللعب ومن الطعام والشراب».
●●●
عادت ابنتى الأصغر هى الأخرى إلى أيام تصفها بأنها أحلى أيام عمرها. كنا وقتها نقضى بعض ساعات النهار خلال عطلة نهاية الأسبوع على شاطئ فى ضاحية قرطاج. هناك كنا نلتقى بزميل لى لم أعرف ندًا له فى كرمه ونبل أخلاقه وطيب معشره. كان يخصص بعض وقت العطلة يلاعب ابنتى وهى فى ربيعها السادس، هو طويل السيقان وبطىء الحركة أكثر من المعتاد وهى دائبة الركض، أيضا أكثر من المعتاد.
●●●
ذكرتنى قبل أيام بزيارة قمنا بها هى وأنا لبيت صديقنا المشترك، وكان اليوم سبتا وبارد الطقس ففضلنا جميعا عدم الخروج إلى الشاطئ. وصلنا ومعنا زميلة من العمل. بعد الترحيب فاجأنا الصديق بطلب غريب. جلس على الأرض فى صالة واسعة خالية من الأثاث وأمامه اصطف ثلاثون زوج من الأحذية الإنجليزية باهظة الثمن، وأغلبها مستعمل ليوم أو يومين لا أكثر. هوايته جمع الأحذية وأمتع ساعات راحته تلك التى يقضيها فى صحبتها. طلب منا مساعدته فى مهمة إعادة تقييم أزواج الأحذية طبقا لمعايير حددها وراجعها معنا. أبلغنا أنه وقد حان موعد شراء زوج جديد من لندن، يتعين عليه قبل شرائه له إحالة زوج من مجموعته للاستيداع. قالها فى كلمات مكسوة بكثير من الأسى وكأنه على وشك أن يودع كائنا كان رفيق حياة.
●●●
اتصل بى مساء أمس صديق كان جارا لنا وأنا فى سن المراهقة. كان الألم باديا على صوته. تعودنا على امتداد السنين استمرار التواصل. كثيرا ما سألتنى عن شكله وتقاطيع وجهه زميلة تابعت عن قرب بعض علاقاتى الأقدم. اعترفت أن الصورة التى خلفها فى ذاكرتى هى الصورة نفسها التى كان عليها عندما افترقنا آخر مرة قبل أقل من سبعين سنة بقليل. صورة رفضت وما زلت أرفض أن أدخل عليها بعض تفاصيل مما يفعله الزمن بالناس. أذكره طويل القامة، أطول من كل أصدقاء الحى فى كل مراحل نمونا. أذكر أيضا أنه كان يستعمل نظارات طبية وأنه كان يطمح ليكون مهندسا عندما يتوقف عن الرسوب المتتالى ويستأنف الصعود على سلم التعليم. يذكرنى فى كل اتصال بأنه لن ينسى يوم أعلن عن نجاحه لأول مرة منذ وقت غير قصير، إذ سمع وهو فى الشارع صوت أمى تنادى عليه من الشرفة وتهنئه على النجاح. قام بشراء زجاجة بيبسى مثلجة وصعد بها ليشكرها على التهنئة. انتشر الخبر فاستدان منى ليسدد ثمن زجاجات أخرى للكثير من أمهات الحى اللائى استجبن لطلب أمى تهنئته على نجاح طال انتظاره.
●●●
ابنتى الأكبر التى مثلت دور الفتاة المسكينة المقهورة عندما كنا فى الأرجنتين سألتنى قبل أيام قليلة، بعد تهنئتها بعيد ميلادها، إن كنت أذكر حكاياتها مع جدها لأمها فى بيروت عندما لم يتجاوز عمرها الثامنة وكانت عائدة لتوها من أمريكا اللاتينية. عادت لنعلمها مع شقيقها العربية فى بيت جدها الشاعر وبين أفراد عائلة أمها. يبدو أنها استطاعت أن تكسب حب جدها إلى حد أنه صار يأخذها معه فى كل مرة يخرج فيها للنزهة عند كورنيش الروشة أو فى مقاهيه المفضلة فى عالية وبرمانة فى الجبل. كانت تعود من هذه الرحلات القصيرة مبتهجة؛ لأنها حسب قولها «عادت تسمع نطقا جميلا للغة الإسبانية على لسان جدها». أما هو، أى جدها، فكان يعود فخورا بسلوك حفيدته وطلاقتها وذكائها حتى إن أصدقاءه من الأدباء ورجال السياسة انبهروا برد فعلها فى كل مرة دعاه السائق ليدخل إلى السيارة. كان كعادته ينسى كياسته ويدخل فتغضب الحفيدة وتجلس على الرصيف رافضة دعوات السائق لها بالركوب. لم تكن تتحرك من مكانها إلا بعد أن يحترم جدها آداب التعامل فينزل من السيارة ليفتح لها بنفسه باب السيارة ويدعوها إلى الدخول فتدخل ثم يدخل هو بعدها. تعود إلينا فى البيت لتشكو جدها الدبلوماسى الذى لا يمارس آداب السلوك الاجتماعى. كيف تسمحون فى عائلتكم وبلدكم غير المتحضر لرجل يسبق فتاة أو امرأة فى الدخول إلى مكان أو لركوب سيارة؟.
●●●
قابلت قبل أيام قليلة سيدة قدمت نفسها كزميلة سابقة فى كلية التجارة عندما كنت أدرس العلوم السياسية فى السنوات النهائية. قالت إنها تخصصت فى دراسة الاقتصاد، هكذا فسرت صعوبة تعرفى عليها. رفضت أن تحمل التقدم فى العمر مسئولية عدم تعرفى عليها مجددا. أنقذتنى من حرج مؤكد. قالت كنا فى وقت الدراسة قريبين جدا لأن كلا منا وهب من وقت فراغه ساعتين مرتين فى الأسبوع ليحضر محاضرات ينظمها ويعد بعضها الدكتور عزالدين فريد أستاذ الجغرافيا الاقتصادية فى ذلك الوقت قبل أن ينتقل إلى كلية الآداب عميدا لها. لعلها كانت من أكثر أنشطتنا الجامعية امتاعا، ولها الفضل، حسب رأيها، فى تفوقنا فى الأنشطة الأكاديمية. أظن أن هذا اللقاء هو السبب فى أن ذاكرتى راحت منذ ذلك اليوم تركز على إحدى أهم فترات حياتى، وهى الفترة التى اقتطعت منها وقتا لمحاضرات الموسيقى ووقتا اشتغلت فيه «صبى مكتبة» فى مكتبة مركز الإعلام الأمريكى ثم مشرفا على المكتبة الموسيقية التى كانت تضم أسطوانات لمئات السيمفونيات والأوبرات، وكثير منها حاضرت فيه وكسبت له عشاقا، ووقتا للاستعداد لامتحان الملحقين الدبلوماسيين، كانت أياما حقا ممتعة وحافلة وغنية بالذكريات.
●●●
وسط هذه الذكريات يبقى دائما أبرزها وهو الذى لا يفارق ولا ينخلع من موقعه حتى إننى صرت لا أخجل من عرضه على أصدقاء متخصصين فى دراسة النفس البشرية الباحثة دائما عن المتاعب ونوعية العقل الذى لا يهدأ. موقعان فى صندوق ذكرياتى احتلا مكانة خاصة. أولهما، وهو الأقل صعوبة فى الفهم، موقع سطح بيت جدتى المطل من الخلف على حارة الوراق. قيل لى إن أبى وأمى ولدا فى بيت من البيوت الأربعة القائمة وقتذاك فى الحارة وكان يسكنها جدودى من الناحيتين. أذكر جيدا ما قالته أمى وأكده لى أبى وأعمامى من أنهم تحملوا وهم صغار مسئولية إغلاق بوابة الحارة بعد عودة جميع الكبار من أعمالهم بعد منتصف الليل، يغلقونها بمفتاح كبير بطول «طفل صغير». وحكايات أخرى عن أنشطة العمل فى مهنة الورق من مكتبات إلى تجارة الحبر والصمغ والورق والأقلام إلى النشر، نشر الكتب والمجلات. كانت مهام الوراقين عديدة ولهم مشكلات عديدة مع ممثلى السلطة بجانبيها الأجنبى والمحلى ولعبوا أدوارا بارزة فى ثورة 19.
●●●
الموقع الثانى، باقية ذكرياته ملتصقة فى مخيلة أنا صانعها وربما ساهمت فى تشكيلها وصياغتها حكايات أهل العائلة الممتدة فى حياتنا منذ الصغر وإلى يومنا هذا. هذا الموقع، ولن أطيل فى شرح أبعاده حتى لا أفقد القارئ الذى صمد مع بعض ذكرياتى حتى اللحظة، مساحته عشرون سنتيمترا مربعا ويقع داخل مشربية رائعة الصنع يتجدد هواؤها بحكمة نقوشها وروعة توزيعها، وهى نفسها التى كانت تحمينى وأنا داخل المشربية من الشمس إن التهبت أو تجاوزت. ما زلت أذكر من كوتى ومن فتحات خشب المشربية، وهنا الغرابة، تفاصيل الجزء الأخير من شارع أمير الجيوش الجوانى قبل أن يصب فى شارع المعز لدين الله. أرى بكل الوضوح الممكن بائع البليلة وماسح الأحذية والمصلين بجلاليبهم البيضاء وهم يغادرون المسجد يتبادلون تحيات الوداع. أرى فى دفتر ذكرياتى كل هذا كما كنت أراه وأنا محبوس فى داخل المشربية فى مساحة لا تزيد على عشرين سنتيمترا مربعا، يعنى كنت فى حجم طفل رضيع لا يتجاوز عمره شهور معدودة أو سنة على الأكثر. عشت أتساءل إن كان العلم استطاع تفسير هذه الظاهرة أم أنه ألقى بتبعتها على خيالات خصبة أو، وهو الأسوأ، على هلوسات أطفال.
●●●
كل ما أتمناه الآن هو ألا يأتى أو يصادفنى ما يمكن أن يحرمنى من متعة دقائق أقضيها بين الحين والآخر فى صحبة ذكرياتى.