بقلم:جميل مطر
الرسالة الأولى
نعم يا أمى أحبه الآن كما أحببته أيام كان جارا لنا فى بنايتنا. هل تذكرين يا أمى أنك التى قمت بدعوته ليشرب معنا الشاى. قابَلْتِهِ عند جارتنا التى وافقت على أن تؤجر له شقتها الأصغر فى الطابق العلوى من بنايتنا. قلت لى صباح ذلك اليوم أنك ارتحت له، رغم أنك لم ترتاحى يوما للرجال والشبان سمر البشرة الذين توافدوا فى السنوات الأخيرة بأعداد غفيرة على مدينتنا للانضمام إلى إحدى الجامعتين اللتين فتحتا أبوابهما للطلاب القادمين من الشرق الأوسط.
أعرف وأحس من على البعد كم أنت قلقة. أمى أنا سعيدة. لم أشعر يوما وأنا فى بلدى وفى حضنك بمثل هذه السعادة التى أشعر بها منذ وصلت هنا. أمى طبعا أنا أفتقد حنانك وحضنك وأفتقد مدينتى الجميلة. يجب أن أعترف لك أن المدينة التى أعيش فيها ليست فى جمال مدينتنا «الذهبية» ولكنها جذابة. تعرفين ما أقصد. يقول كبار السن من أهلها إنها كانت أجمل. ربما هم على حق يا أمى حتى أكاد أجزم أننى أرى الجمال مدفونا فى كل مكان، أراه تحت كل بناية جديدة وطريق جديد، أراه تحت المساحيق والحجاب وتحت اللحى.
أمى، تعرفين أننى لا أبالغ، وتذكرين أننى جلت فى بلاد كثيرة انبهرت بآثارها أو برجالها أو بنظافتها ولكن لا شىء رأيته فى كل حلى وترحالى يوازى اللحظة التى رأيت فيها هذا النهر. عشت على ضفاف الدانوب والراين والدنيبر والفولجا ولم تقم بينى وبين أى منها علاقة حميمة كالتى قامت بيننا، بين الأسمر الساحر صاحب ومنظم المكان بجاذبيته الخارقة وبين الضيفة الشقراء الناعمة، بين النيل وأنا.
أترك القلم الآن فحبيب عمرى على وشك أن يعود. أعدك يا أمى أن يجد البيت نظيفا وغداءه ساخنا وشرابه كما يحبه وامرأته فى أبهى صورة. سوف يجدنى يا أمى عند حسن ظنك بابنتك. يعود ملهوفا ككل رجل يحب ليرانى وأنا لست أقل لهفة. اليوم الطويل يذوب فى هذه اللحظة. بل أكثر من هذا. هى اللحظة التى يتجدد فيها حب السنين، فى هذه اللحظة تتوثق معرفتى به. يحكى لى تفاصيل ما دار فى يوم العمل، فخورا بما أنجز فأزداد فخرا به، وبين حكاية إنجاز وأخرى أحظى بحضن وكثيرا ما انزاح الحضن ليفسح المجال لتعبير آخر من تعبيرات الحب.
أمى، ما أحلى زمانى معه فاسعدى لسعادتى.
الرسالة الثانية
أمى، مر وقت طويل لم نتواصل فيه. أحن إلى لمسة يدك فوق شعرى تبعثين من خلالها دفقة حب أحتاجها فى الأوقات الصعبة. كثرت هذه الأوقات وطالت. ما زلنا نعيش فى البيت الذى نزلنا فيه يوم وصولنا من أوروبا. رفيقى وأعز كائن فى حياتى، بعدك طبعا يا أمى، لا يزال يفعل ما كان يفعله قبل عامين، أى منذ كتبت لك أول رسالة. بصراحة يا أمى، يؤدى بعض الأفعال التى تعودنا عليها ويهمل أكثرها. أسألك يا أمى إن كان هذا التغيير من طبائع الحب. يعود فى أيام من العمل ملهوفا ولكن ليس فى كل الأيام. أكاد أؤكد أنه فى معظم الأيام لا يعود ملهوفا. يسألنى، بغير اهتمام كبير، عما فعلت فى يومى. يسمعنى أجيب بينما يطلب صديقا له على الهاتف. أسأله بكل الاهتمام عن عمله وإنجازاته فيه فلا يجيب، وإن أجاب فمجاملة.
من ناحيتى، أعترف بأننى بدأت أشكو الملل فى انتظار عودته. صرت أتصل بصديقات أجنبيات مثلى تعرفت عليهن فى مناسبات أو فى النادى الذى كنا نرتاده بانتظام عقب وصولنا. ذات مرة ووسط الشكوى المعتادة استأذن ليخرج من البيت. عاد بعد ساعة ومعه كلب عمره شهور قليلة. تعمدت، وربما عن فهم خاطئ، أن أذكره بأيام وليال قضيناها معا نتجول فى عاصمة وطنى الجميلة وعلى ضفاف الدنيبر قبل أن آتى إلى مدينته الجذابة. عشنا فى وطنى ساعات بين الزهور وفى الخضرة الرائعة والزاهية فى شهور الربيع القصير جدا والصيف الطويل نسبيا وفوق الجليد فى الشتاء الطويل جدا. وبعد الركض والتزحلق واللعب أسحبه سحبا إلى البيت لنقضى الليل هو يدرس وأنا إلى جانبه أعرض عليه شرب الشاى أو أدلك له الرقبة والظهر وفى الموعد الذى أراه مناسبا أجره جرا إلى الفراش لينام حتى الصباح، أوقظه والظلام لم ينجل ليذهب إلى فصوله وأساتذته وتلاميذه. هو الآن بالتأكيد يكره جهودى وإصرارى على تذكيره بوقت رائع قضيناه معا. كل سنوات الدراسة. أكاد أقول إنه بدونى ما كان أنجز ما جاء إلى مدينتنا لينجزه. أظن أنه يقرأ ما يدور فى رأسى فيزداد تمردا وابتعادا. كثرت لقاءاته مع أصدقاء جدد أنا لم أعرفهم حتى بدأوا يزوروننا، ثلاثة منهم على الأقل صاروا يتوددون لى فى حضوره وأحيانا فى غيابه. أظن، وأنا غير واثقة من صحة ما أقول، أظن أنه كان يعرف ويسكت غير مبال. تعددت أكثر من المعتاد زياراته لعائلته ومن هذه الزيارات كان يعود مثقلا بالهم. يجلس فى ركن ساكنا يفكر وإن سألته اعتذر لأسباب تتعلق بالعمل. صار العمل ومن يعملون أو من تعملن فيه أسرارا لا يجوز الكشف عنها أو التحدث فى شئونها.
لم نعد نخرج معا إلا نادرا لمشاهدة عروض فى الأوبرا أو لحفل استقبال فى سفارة أجنبية. أذهب منفردة إلى النادى. ذات مرة اختلى بى أحد أصدقائه الجدد. تودد كثيرا وأفاض فى الإدلاء بتلميحات غير أنيقة وغير ذكية. وفى النهاية وعندما أيقن فشله فى الحصول منى على ما يقابل تودده المضنى أفصح عن اعتقاده أو معلوماته أن رفيقى واقع تحت ضغط عائلى وفى العمل ليتزوج من مصرية بعينها تساعده فى تحقيق طموحاته السياسية فى الدولة وأطماعه نحو توسيع نفوذه وسلطاته فى دوائر العمل.
الرسالة الثالثة
لمن يهمه الأمر
أصارحك القول إننى غاضبة ومفجوعة ويائسة. لا أعرف أين توجد أمى بعد قيام الحرب ونجاح المؤامرة وأتمنى على كل حال ألا تقع فى يدها هذه الرسالة. أمى ليست فى منزلها وإذا كانت حية وتركته لبيت آخر أو بلد آخر فهى لم تكتب لى عنوانها الجديد. ربما فقدت الحياة مع ما يمكن أن تكون فقدته. الناس تفقد أوطانها مرة فى العمر وأنا أفقده مرتين. هؤلاء الأصدقاء الجدد الذين عرفنى عليهم رفيق عمرى هم الآن يدبرون فيما بينهم مؤامرة انفصالى عنه واقتسامى بينهم. أرفض بكل ما أوتيت من حب ذات يوم أن أتهمه بالتواطؤ.
إضافة متأخرة
خرجت مع كلبتى نتمشى فى الحديقة الملحقة بالحى الذى نقيم فيه. جلست على أريكة إسمنتية أبكى. تفلتت الكلبة منى وجرت نحو رجل يبدو على البعد متقدما فى العمر. توجهت نحوه لأستعيد الكلبة. رفع رأسه من بين أوراق كان يقرأ فيها ونظر ناحيتى وأنا أحاول سحب الكلبة ودموعى فاضت عن الحدقتين وسالت نحو الخدين، والكلبة تعاند ممسكة بالأوراق ورافضة الذهاب معى. عرض العجوز المساعدة فاستجبت بقولى، تسمعنى. وافق واستمع. نهضت متسائلة إن كان يأتى بانتظام فى هذه الساعة، ساعة الغروب. أجاب بالإيجاب. حملت الكلبة على غير ما أرادت واختفيت وإياها وراء أشجار الحديقة عائدتين إلى بيت لا رفيق فيه.