توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فى المقهى

  مصر اليوم -

فى المقهى

بقلم:جميل مطر

وعدتك بأن أعد لك تقرير تقدم عن مسيرتى مع الأطروحة. ها أنذا أبعث لك بتقرير ولكن ليس عن تقدمى فى أطروحتى بل عن تقدمى فى موضوع آخر. موضوع لا يقل صعوبة وتعقيدا. اسمح لى أولا أن أقدم لتقريرى بمقدمة كنت أنت فى الحقيقة صاحب فكرتها وهى الفكرة التى لا تزال تطرحها بصيغة أو أخرى كلما رأيتنى.
تلومنا، أنا وبعض بنات جيلى، على ما تسميه تقاعسنا فى المبادرة بتحريك عواطفنا تجاه الجنس الآخر، عواطف تتهمنا بأننا جمدناها ونمعن فى تجميدها عامدات متعمدات. تقول إننا لا نبادر خوفا أو حرجا أو تدينا أو ترفعا وكبرا. ندافع عن أنفسنا فنقول «وربما لا لهذا السبب أو ذاك وإنما لقصور فى نضج الطرف الآخر ونقص أو اعوجاج فى نواياه أو لانصرافه عنا».
• • •
أذكر أننى فى أحد لقاءاتنا قلت لك إننى أحضر يوميا إلى هذا المقهى يصحبنى اللاب توب وحقيبة كراساتى وغيرها من لوازم العمل على أطروحتى. وجدت فى المقهى ما لم يعد متاحا فى بيتى. وجدت الهدوء. فى البداية سمعت من أهلى انتقادات واعتذارات. تفهمتها جميعها. فالتردد على المقهى كان دائما خصوصية ذكورية. كنت صغيرة عندما كانت أمى تطلب منى الذهاب إلى المقهى على ناصية شارعنا عند نقطة التقائه بالشارع الرئيس فى الحى؛ حيث يمر الترام، لأذكر جدى بموعده مع المعالج أو لتسليمه حافظة نقوده قبل أن يفتقدها. كنت أتوقف عند أحد منافذ المقهى فى انتظار أن يمر أمامى عامل المقهى فأبعث له بإشارة يفهم منها أننى أحمل رسالة. أراه من بعيد وهو ينحنى على مائدة ليبلغ جدى بأنى أنتظر فى الخارج فيخرج لى. كانت الأعراف فى مثل الحى الذى نقيم فيه لا تسمح بدخول فتاة مهما كان عمرها إلى صالات المقهى.
الآن بعضنا، بعض النساء، يقضين فى المقهى من نهارهن أكثر مما يقضين فى بيوتهن. صار مألوفا منظر النساء من عمرى وأعمار أخرى يعملن من المقهى، يجرين الاتصالات ويتزودن بالمعلومات مستفيدات بتسهيلات الإنترنت وخدمات جوجل. كل هذا وغيره مقابل دفع ثمن زهيد لمشروب أو شطيرة أو حصة من حلوى. تجاوزنا الأعراف وأمسكنا بزمام المبادرة وأصبحنا كنساء نتصدر تصنيفات زبائن المقاهى. أظن أنك فخور بما حققنا، صحيح أنه ليس كل ما تمنيت تحقق، ولكننا على الطريق.
• • •
أستاذى،
انتهت المقدمة والآن إلى حكايتى. لى شهور وأنا مواظبة على الحضور إلى هذا المقهى. أنا بالفعل راضية عن إنجازات تحققت وستكون راضيا عند قراءة تقرير التقدم الذى أعده لك هذه الأيام. أدمنت خلال هذه الشهور شرب القهوة، صرت أظن أنها توقظ فى عقلى الفضول والإقبال على القراءة والكتابة. مخطئة أنا فى هذا الظن ولكنى اقتنعت حتى أدمنت. أجلس فى ركن لا يجلس فيه غيرى، وبعد دقائق معدودة يأتينى النادل بقهوتى ومعها زجاجة مياه. لا يسأل أو يقترح. لاحظت بعد حوالى شهرين وربما أطول قليلا أننى لم أسمع صوته ولا أعرف شكله. يومها رفعت رأسى عن اللاب توب ونظرت إلى وجهه وابتسمت شاكرة له الخدمة الجيدة. سمعته يتمتم.
تعودت فى الأيام التالية أن أبتسم كلما وضع القهوة فى المكان الذى خصصته لها بعيدا عن اللاب توب، أحيانا أرفع رأسى وأنظر إليه وأحيانا كثيرة أكتفى بالابتسامة دون رفع الرأس. لم ألاحظ، إلا متأخرة، أن المرات التى أرفع فيها الرأس وأنظر إليه صارت أكثر من المرات التى أكتفى فيها بابتسامة تعكس برودتها قدر تركيزى فى عملى. زاد اهتمامى بالقهوة إلى حد أنى بدأت أتوقف عن الكتابة لأبحث عن نادلى ليجدد قهوتى، أدعوه مرة لتسخينها ومرة لتجديدها ومرة لأشكو اختلاف مذاقها. ولم أكن فى أى مرة من هذه المرات صادقة النية. اضطربت كثيرا حين فهمت وقدرت أن النية راحت فى اتجاه آخر تماما. لم أغضب. ارتبكت فقط. لم تعد القهوة وحدها سببا كافيا لمجيئى يوميا لهذا المقهى. حتى العمل للانتهاء من الأطروحة أصبح مسألة ثانوية. أعتذر يا أستاذى إن كنت تجاوزت حدودى وأهملت واجبى. مكانتك ومكانة الأطروحة والشهادة العليا المعتمدة عليها، كلها مكانات محفوظة. كل ما هنالك هو أن تلميذتك دخلت مرحلة جديدة، مرحلة تعدد الاهتمامات. أعدك أن شيئا لن يشغلنى عنك، أقصد يشغلنى عن الانتهاء من دراساتى.
ربما حالة طارئة من الفضول. هل تذكر نصيحتك لنا أن نكثف حاسة الفضول لدينا إن نحن أردنا الوصول إلى بر الحكمة والعلم. لم أنس وأنا أعد تقرير التقدم أن أكثر من الحديث عن دور الفضول فى تحقيق ما أردت إنجازه فى العمل على أطروحتى. لا أخفى عنك أنى فى غمرة الانبهار بما تحقق بفضل تكثيف تشغيل هذه الحاسة وجدت نفسى أحدق فى أصابع النادل كلما حمل لى قهوتى. رحت أبحث عن شىء أو أشياء عنه قد تكشفها أصابع يديه. قدرت مثلا أنه غير متزوج. تجاهلت بل رفضت فكرة أنه ربما كان مرتبطا عاطفيا. قررت أيضا من وراء الفضول أنه يحترم النظافة والمظهر فأظافره تكشف عن اهتمام ووعى. تعمدت استدعاءه ذات صباح وفور وصولى إلى المقهى لأطلب منه كلمة سر الإنترنت المستخدم هنا. نطق بكلمة السر فاعتذرت لعدم التقاطها بوضوح، عرضت عليه أن يكتبها بنفسه فى الجهاز. فتح اللاب توب وتمكن من تشغيله بسهولة بعد أن استأذن فى الحصول على كلمة سر تشغيله ولم أتردد فى إعطائها له رغم أنه دفع الجهاز ناحيتى لأكتبها بعيدا عنه فرفضت وأمليتها عليه وأنا أقولها مرة بعد أخرى: كلمة السر هى ناريمان، اسمى. كتب ناريمان وسجل كلمة سر الإنترنت واستدار وعيناه لا تفارق عيناى ليقول «واسمى كريم».
• • •
لا أعرف، أو لا أذكر، كيف قضيت بقية اليوم. شعرت بشعور من قرر ذات يوم تغيير مهنته أو الحرفة التى نشأ فيها وعاش عليها، أو بشعور من استيقظ ليجد نفسه غريبا فى فراش غير فراشه وبين أهل غير أهله. وقفت أمام مرآتى فابتسم الشخص الواقف فيها مرحبا بى، أو فى الحقيقة ابتسمت لنفسى سعيدة وراضية ومشجعة. ذهبت إلى المقهى وجلست فى مكانى. لم يأت على الفور كعادته. شعرت بألم فى معدتى وزغللة فى عينى. جاء نادل آخر ليأخذ طلبى. تجاسرت وسألت عن كريم، أجاب زميله بأنه اعتذر اليوم ليؤدى امتحان الملحقين الدبلوماسيين. أمسكت بهاتفى وطلبت أوبر ثم نهضت من مقعدى وحملت حقيبتى وخرجت من المقهى وفى الأوبر أمرت السائق بالتوجه إلى وزارة الخارجية.
• • •
أستاذى،
تأخرت عليك. أخالك مبتهجا. تلميذتك بادرت وأفلحت. أنت أيضا أفلحت وكريم كذلك. خرجنا بالأمس لتناول عشائنا المفضل على شط السين وكان القمر بدرا منقوصا، أى أنه كان فى أروع لحظات جماله. قرب نهاية العشاء التفت كريم ناحيتى وقال «أحبك.. أحبك منذ يوم وطأت فيه قدماك أرض المقهى الذى كنت أعمل فيه».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى المقهى فى المقهى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon