بقلم:جميل مطر
وعدتك بأن أعد لك تقرير تقدم عن مسيرتى مع الأطروحة. ها أنذا أبعث لك بتقرير ولكن ليس عن تقدمى فى أطروحتى بل عن تقدمى فى موضوع آخر. موضوع لا يقل صعوبة وتعقيدا. اسمح لى أولا أن أقدم لتقريرى بمقدمة كنت أنت فى الحقيقة صاحب فكرتها وهى الفكرة التى لا تزال تطرحها بصيغة أو أخرى كلما رأيتنى.
تلومنا، أنا وبعض بنات جيلى، على ما تسميه تقاعسنا فى المبادرة بتحريك عواطفنا تجاه الجنس الآخر، عواطف تتهمنا بأننا جمدناها ونمعن فى تجميدها عامدات متعمدات. تقول إننا لا نبادر خوفا أو حرجا أو تدينا أو ترفعا وكبرا. ندافع عن أنفسنا فنقول «وربما لا لهذا السبب أو ذاك وإنما لقصور فى نضج الطرف الآخر ونقص أو اعوجاج فى نواياه أو لانصرافه عنا».
• • •
أذكر أننى فى أحد لقاءاتنا قلت لك إننى أحضر يوميا إلى هذا المقهى يصحبنى اللاب توب وحقيبة كراساتى وغيرها من لوازم العمل على أطروحتى. وجدت فى المقهى ما لم يعد متاحا فى بيتى. وجدت الهدوء. فى البداية سمعت من أهلى انتقادات واعتذارات. تفهمتها جميعها. فالتردد على المقهى كان دائما خصوصية ذكورية. كنت صغيرة عندما كانت أمى تطلب منى الذهاب إلى المقهى على ناصية شارعنا عند نقطة التقائه بالشارع الرئيس فى الحى؛ حيث يمر الترام، لأذكر جدى بموعده مع المعالج أو لتسليمه حافظة نقوده قبل أن يفتقدها. كنت أتوقف عند أحد منافذ المقهى فى انتظار أن يمر أمامى عامل المقهى فأبعث له بإشارة يفهم منها أننى أحمل رسالة. أراه من بعيد وهو ينحنى على مائدة ليبلغ جدى بأنى أنتظر فى الخارج فيخرج لى. كانت الأعراف فى مثل الحى الذى نقيم فيه لا تسمح بدخول فتاة مهما كان عمرها إلى صالات المقهى.
الآن بعضنا، بعض النساء، يقضين فى المقهى من نهارهن أكثر مما يقضين فى بيوتهن. صار مألوفا منظر النساء من عمرى وأعمار أخرى يعملن من المقهى، يجرين الاتصالات ويتزودن بالمعلومات مستفيدات بتسهيلات الإنترنت وخدمات جوجل. كل هذا وغيره مقابل دفع ثمن زهيد لمشروب أو شطيرة أو حصة من حلوى. تجاوزنا الأعراف وأمسكنا بزمام المبادرة وأصبحنا كنساء نتصدر تصنيفات زبائن المقاهى. أظن أنك فخور بما حققنا، صحيح أنه ليس كل ما تمنيت تحقق، ولكننا على الطريق.
• • •
أستاذى،
انتهت المقدمة والآن إلى حكايتى. لى شهور وأنا مواظبة على الحضور إلى هذا المقهى. أنا بالفعل راضية عن إنجازات تحققت وستكون راضيا عند قراءة تقرير التقدم الذى أعده لك هذه الأيام. أدمنت خلال هذه الشهور شرب القهوة، صرت أظن أنها توقظ فى عقلى الفضول والإقبال على القراءة والكتابة. مخطئة أنا فى هذا الظن ولكنى اقتنعت حتى أدمنت. أجلس فى ركن لا يجلس فيه غيرى، وبعد دقائق معدودة يأتينى النادل بقهوتى ومعها زجاجة مياه. لا يسأل أو يقترح. لاحظت بعد حوالى شهرين وربما أطول قليلا أننى لم أسمع صوته ولا أعرف شكله. يومها رفعت رأسى عن اللاب توب ونظرت إلى وجهه وابتسمت شاكرة له الخدمة الجيدة. سمعته يتمتم.
تعودت فى الأيام التالية أن أبتسم كلما وضع القهوة فى المكان الذى خصصته لها بعيدا عن اللاب توب، أحيانا أرفع رأسى وأنظر إليه وأحيانا كثيرة أكتفى بالابتسامة دون رفع الرأس. لم ألاحظ، إلا متأخرة، أن المرات التى أرفع فيها الرأس وأنظر إليه صارت أكثر من المرات التى أكتفى فيها بابتسامة تعكس برودتها قدر تركيزى فى عملى. زاد اهتمامى بالقهوة إلى حد أنى بدأت أتوقف عن الكتابة لأبحث عن نادلى ليجدد قهوتى، أدعوه مرة لتسخينها ومرة لتجديدها ومرة لأشكو اختلاف مذاقها. ولم أكن فى أى مرة من هذه المرات صادقة النية. اضطربت كثيرا حين فهمت وقدرت أن النية راحت فى اتجاه آخر تماما. لم أغضب. ارتبكت فقط. لم تعد القهوة وحدها سببا كافيا لمجيئى يوميا لهذا المقهى. حتى العمل للانتهاء من الأطروحة أصبح مسألة ثانوية. أعتذر يا أستاذى إن كنت تجاوزت حدودى وأهملت واجبى. مكانتك ومكانة الأطروحة والشهادة العليا المعتمدة عليها، كلها مكانات محفوظة. كل ما هنالك هو أن تلميذتك دخلت مرحلة جديدة، مرحلة تعدد الاهتمامات. أعدك أن شيئا لن يشغلنى عنك، أقصد يشغلنى عن الانتهاء من دراساتى.
ربما حالة طارئة من الفضول. هل تذكر نصيحتك لنا أن نكثف حاسة الفضول لدينا إن نحن أردنا الوصول إلى بر الحكمة والعلم. لم أنس وأنا أعد تقرير التقدم أن أكثر من الحديث عن دور الفضول فى تحقيق ما أردت إنجازه فى العمل على أطروحتى. لا أخفى عنك أنى فى غمرة الانبهار بما تحقق بفضل تكثيف تشغيل هذه الحاسة وجدت نفسى أحدق فى أصابع النادل كلما حمل لى قهوتى. رحت أبحث عن شىء أو أشياء عنه قد تكشفها أصابع يديه. قدرت مثلا أنه غير متزوج. تجاهلت بل رفضت فكرة أنه ربما كان مرتبطا عاطفيا. قررت أيضا من وراء الفضول أنه يحترم النظافة والمظهر فأظافره تكشف عن اهتمام ووعى. تعمدت استدعاءه ذات صباح وفور وصولى إلى المقهى لأطلب منه كلمة سر الإنترنت المستخدم هنا. نطق بكلمة السر فاعتذرت لعدم التقاطها بوضوح، عرضت عليه أن يكتبها بنفسه فى الجهاز. فتح اللاب توب وتمكن من تشغيله بسهولة بعد أن استأذن فى الحصول على كلمة سر تشغيله ولم أتردد فى إعطائها له رغم أنه دفع الجهاز ناحيتى لأكتبها بعيدا عنه فرفضت وأمليتها عليه وأنا أقولها مرة بعد أخرى: كلمة السر هى ناريمان، اسمى. كتب ناريمان وسجل كلمة سر الإنترنت واستدار وعيناه لا تفارق عيناى ليقول «واسمى كريم».
• • •
لا أعرف، أو لا أذكر، كيف قضيت بقية اليوم. شعرت بشعور من قرر ذات يوم تغيير مهنته أو الحرفة التى نشأ فيها وعاش عليها، أو بشعور من استيقظ ليجد نفسه غريبا فى فراش غير فراشه وبين أهل غير أهله. وقفت أمام مرآتى فابتسم الشخص الواقف فيها مرحبا بى، أو فى الحقيقة ابتسمت لنفسى سعيدة وراضية ومشجعة. ذهبت إلى المقهى وجلست فى مكانى. لم يأت على الفور كعادته. شعرت بألم فى معدتى وزغللة فى عينى. جاء نادل آخر ليأخذ طلبى. تجاسرت وسألت عن كريم، أجاب زميله بأنه اعتذر اليوم ليؤدى امتحان الملحقين الدبلوماسيين. أمسكت بهاتفى وطلبت أوبر ثم نهضت من مقعدى وحملت حقيبتى وخرجت من المقهى وفى الأوبر أمرت السائق بالتوجه إلى وزارة الخارجية.
• • •
أستاذى،
تأخرت عليك. أخالك مبتهجا. تلميذتك بادرت وأفلحت. أنت أيضا أفلحت وكريم كذلك. خرجنا بالأمس لتناول عشائنا المفضل على شط السين وكان القمر بدرا منقوصا، أى أنه كان فى أروع لحظات جماله. قرب نهاية العشاء التفت كريم ناحيتى وقال «أحبك.. أحبك منذ يوم وطأت فيه قدماك أرض المقهى الذى كنت أعمل فيه».