بقلم:جميل مطر
بعيدا عن تفاصيل الجغرافيا عشت بعض عمرى أتصور أو أعتقد أن أوكرانيا مقاطعة روسية. كان لأوكرانيا صوت فى الأمم المتحدة باعتبارها كيانا مستقلا. الكيان فى الشكل مستقل والصوت فى الواقع العملى غير مستقل. هذه المفارقة ظلت قائمة بشكل ما بعد الحرب الباردة وانفراط الاتحاد السوفييتى حتى نشبت فى عام 2014 ثورة الميدان فى أوكرانيا، وهى الثورة التى أطاحت برئيس جمهورية شديد الولاء لروسيا. القيادة الروسية فى الكرملين لا تزال إلى يومنا هذا تعتقد أن الثورة كانت حلقة فى مسلسل الثورات الملونة التى أطاحت بأنظمة الحكم الشيوعى فى دول شرق أوروبا. تعتقد أيضا أن الولايات المتحدة بالذات لعبت دورا فى إشعال ثورة الميدان، ولن يهدأ لها بال حتى تضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسى. موسكو لا تنسى أنها حصلت من الرئيس بوش على وعد بأن أمريكا لن تسعى لتوسيع الحلف الأطلسى، بمعنى أنها لن تضم دولا من شرق أوروبا وجوار روسيا إلى الحلف. فى النهاية وعلى ضوء الظروف الداخلية والإقليمية صارت روسيا مقتنعة أن أمريكا فى مرحلة تأكد فيها وضعها كقطب أعظم وحيد لا تنافسها عليه ولن تنافسها دولة أخرى لفترة طويلة، سوف تحترم تعهداتها.
استجدت ظروف كثيرة أختار هنا أهمها من وجهة نظرى. اخترت الظرف أو الحالة التى يندر الحديث عنها وسط زوابع الصراع الناشب حاليا بين أمريكا وبعض حلفائها من جهة وروسيا، وربما بالتحالف مع الصين فى المستقبل القريب، من جهة أخرى. أنا وكثيرون لفت نظرهم التصعيد المتعمد من جانب طرفى المواجهة. المواجهة لها ما يبررها. أستطيع أن أتفهم بعض أسباب أو دوافع الحشد العسكرى الروسى قرب الحدود مع أوكرانيا وفى الوقت نفسه أتفهم ولا أتعاطف مع الإصرار الأمريكى على نية تشجيع أوكرانيا على طلب الانضمام للحلف. ينبع تفهمى لكثير من سلوكيات دول فى الغرب وروسيا والصين من اقتناعى بأننا نعيش واحدة من أخطر وأهم مراحل الصراع الدولى، وهى مرحلة الاقتراب المتدرج ثم المتسارع من جانب قوى دولية بعينها من خط النهاية لنظام دولى مرتبك ومن حال الاستعداد والتعبئة العظمى لوضع بدائل لهذا النظام، بدائل تتعلق بموقع القيادة وشكلها، أحادية أم ثنائية أم متعددة، وبدائل تتعلق بنوع التفاعلات المطلوبة أو المتوقعة كالأحلاف والقواعد الحاكمة لسلوكيات الأطراف.
أتفهم الحدة المتزايدة والمبالغ فيها من جانب مختلف أطراف المواجهة. أتفهم أيضا التصعيد المتبادل والاقتراب المتزايد حساسية من مواقع الاشتباك. هذه الأطراف، وأقصد بالتحديد الولايات المتحدة وقيادة حلف الناتو وروسيا والصين، تدرك أن أى خطأ يقع فيه طرف ستكون له تبعات وتداعيات تمس مباشرة مكان ومكانة هذا الطرف فى النظام الدولى المرتقب أو فى النظام الدولى الراهن ولكن بعد تعديله.
يعرف الجميع، وأنا منهم وكذلك القوى العظمى، أن النظام الراهن لن يبقى للمستقبل، لا مستقبل له إلا إذا نشبت معركة عسكرية عظمى، كما هو متخيل لدى البعض حول أوكرانيا، وخرجت أمريكا من المعركة منتصرة. بمعنى آخر خرجت وخرج سالما معها النظام الدولى الذى صنعته بنفسها قبل خمسة وسبعين عاما. وفى رأيى أن هذا البديل يستحيل أن يتحقق والصين موجودة كقوة عظمى ولها طموحاتها المشروعة. أعرف أنه يوجد بين الصقور وبخاصة داخل الحزبين فى الولايات المتحدة من يعتقد أن الفرصة حانت، ها هما الدولتان العظميان المعارضتان لأمريكا تتحالفان فى الصراع على أوكرانيا ضد الولايات المتحدة أملا فى أن تنجحا فى منعها من تجديد عمر النظام واستمرارها فى فرض قواعد العمل فيه، وأول القواعد أن تكون الولايات المتحدة القطب الأوحد وبالتالى من حقها فرض ما تشاء من قواعد عمل تتناسب والمرحلة الجديدة.
القطبان، أحدهما جديد وصاعد بسرعة، والآخر قديم أخرجته أمريكا من القيادة بعد الحرب الباردة ويسعى للعودة بقوة أكبر، يسعيان لمنع أمريكا من استخدام حقها فى إشعال ثورات فى الدول النامية أو فى الدول الواقعة ضمن مناطق نفوذ كلتا الدولتين، روسيا والصين. لا يكون من حقها التدخل فى هونج كونج وفرض أسلوب دولى خاص بتايوان ووضع عقبات أمام عودتها إلى الوطن الأم كما تصفه الصين. كلاهما يسعيان أيضا، بل أتصور أنهما عقدتا العزم فعلا على العمل معا لجعل العالم، كما يرددان، آمنا لعقيدتهما فى الحكم، أى آمنا للأوتوقراطية. القيادة الراهنة للنظام الدولى تعمل بقواعد تخدم مصالح أمريكا ودول الغرب المتحالفة معها، هذه القواعد مصنوعة من أجل جعل العالم آمنا لقوى الديموقراطية الغربية، وليست لصالح ديموقراطيات هجين تخدم أهدافا ضيقة ومصالح فئات حاكمة.
• • •
أظن أن تكون النتيجة التى انتهت إليها انتفاضة أو ثورة قازاخستان دافعا للصين لتسرع بالوقوف إلى جانب روسيا ضد التدخل الأمريكى. لم تتأخر الصين فى انتهاز الفرصة لتؤكد أنها تقف مع التدخل الروسى قبل أن يستفحل التدخل الغربى. هذا النوع من التدخل الغربى صار فى رأى الصين سمة بارزة من سمات القطبية الأحادية التى مارستها واشنطون. مارسته أمريكا عندما شكلت حلفا خاصا تدخلت به ضد العراق الذى تجاسر على القطبية الأحادية فراح يمتحنها بغزو الكويت. قيل وقتها أن سفيرة أمريكا لم تعترض على احتمال استخدام صدام القوة مع جارته. السفيرة أنكرت فى حوار أجريته معها أنها ألمحت إليه أو لم تعترض، قالت، رأيته مصرا وعازما على التدخل فالتزمت الصمت بعد التأكيد على أننا لا نتدخل فى قراراته. قيل لى فى موضع آخر أن الصين لن تنسى قرار الولايات المتحدة بصفتها صانعة قواعد العمل فى النظام الدولى قصف بلغراد وفى أثنائه قصف السفارة الصينية. آخرون يذكرون غزو أفغانستان ثم العراق ضمن ما فعلته أمريكا القطب الأوحد.
المتمردون على النظام الدولى الراهن، وبخاصة على قواعد عمله التى صاغتها أمريكا ومارست القيادة أو الهيمنة على هديها، يقولون أن أمريكا تحاول اليوم تعزيز النظام الراهن ليصبح قادرا على الصمود أمام تهديدات القطبين الآخرين، ولمواجهة قواعد عمل تخريبية صنعتها حكومات غير ديموقراطية وشاركت فى صنعها أنشطة وتيارات الإرهاب الدولى. كانت الدعوة لعقد مؤتمر للدول الديموقراطية محاولة متعجلة من جانب الرئيس بايدين لوقف الانحدار الديموقراطى فى العالم النامى بل وداخل المعسكر الغربى ذاته. كانت محاولة ضمن محاولات أخرى هدفها «تغيير العالم» لصالح النظام الدولى الراهن ومنع تدهوره.
• • •
لا يفوتنى التنبيه إلى أن سقوط كابول فى أيدى طالبان يعد فى نظر المعسكر غير الديموقراطى حدثا لا يقل أهمية من الناحية التاريخية والناحية الرمزية عن سقوط سور برلين. لا مبالغة فى هذه الصورة فكثير من التفاعلات السياسية داخل المعسكر منذ هذا السقوط الفوضوى والملىء بالتناقضات والملوث بقدر هائل من إنكار وإهمال رأى الحلفاء يصعب تفسيرها خارج هذه الصورة أو المقولة.
لا يزال من الصعوبة بمكان وضع تصور مناسب وواقعى لنهاية الأزمة حول أوكرانيا. لا يخفى علينا أن أطرافا فى الأزمة رفعت توقعاتها إلى حد أعلى كثيرا من القدرات والإمكانات المتوفرة وطبيعة الظروف المحيطة. لا يجوز أن أغفل العامل الشخصى مثلا. لدينا رئيس فى موسكو سوف يتجدد انتخابه فى 2024 ورئيس آخر فى واشنطن قد يحاول تجديد رئاسته. كلاهما فى وضع لا يحسد عليه. الأول فاقد الخصم المناسب وأقصد نافالنى أو من فى مستواه والثانى فاقد أو متناقص الشعبية. كلاهما سوف يبنى ترشيحه على ما تحقق فى أوكرانيا. لا يجوز فى الوقت نفسه إغفال الضغوط المتصاعدة الآن على كل من موسكو وواشنطن من جانب حلفاء مهمين مثل الصين ودول البلطيق والسويد وشرق أوروبا والمملكة المتحدة والقوى النافذة داخل روسيا والولايات المتحدة. لكل من هؤلاء الحلفاء والخصوم مصلحة أو عقيدة تدفع فى اتجاه أو آخر، ومع التصعيد المتوالى سوف تزداد الأزمة تعقيدا وربما تمهيدا لإعلان نهاية نظام دولى تجاوز عمره ثلاثة أرباع القرن.