بقلم:جميل مطر
أتوقف عن القراءة أو الكتابة لألحق بنشرة الأخبار تفاديا لصنع رأى تنقصه المعلومات الأحدث. أجلس أمام الشاشة ومعى فنجانى. أندم على دقائق تضيع أمام إعلانات يفرضونها على ذوى الحاجة مثلى لمعلومات جديدة. تأتى اللحظة التى أنتظرها فى مثل هذا الموعد وكلى أمل، أمل الكاتب المرهق، أن تقرأ الأخبار المذيعة التى أفضلها على كل مذيعات الأرض. غالبا تأتى استجابة لرغبة لم أعلن عنها لأحد إلا اليوم. لست وحدى فالعشرات الذين أعرفهم وآلاف لا أعرفهم لاشك أن رغبة مماثلة تولدت فيهم وترعرعت حتى صارت عند بعض ممن أعرف إدمانا أقوى من مجرد رغبة. أعترف ولا أنكر أنه فى معظم الأيام الأخيرة ألجأ إلى الشاشة فى هذا الموعد على أمل أن أسمع من مذيعتى آخر خبر عن تونس التى أحبها. أسمعه وأعود إلى القراءة أو الكتابة مدفوعا بسحر المذيعة وحسن إلقائها وفى الوقت نفسه بقسوة التطورات فى بلد أحببته سعيدا ومؤنسا وأحبه متوجعا ومنهكا.
نعم، أحببت تونس حتى قبل أن أطير إليها أول مرة لأقابل الحبيب بورقيبة رئيسها الأول. جذبتنى إليها شذرات من تاريخها مثل الحكايات عن مقاومتها طويلة الأجل للفتح العربى والروايات عما فعلته بخضارها وخضرتها قبائل عربية نزحت من مصر تحمل الأوامر بإخضاع فلول المقاومة المستمرة. جذبتنى أكثر سمعتها كبلد يؤنس الأغراب من كل لون وجنس وعقيدة، كانوا على حق المؤرخون الذين يقال عنهم إنهم ألصقوا بها اسم تونس نسبة إلى موهبة أهلها فى المؤانسة وحسن استقبال الضيوف.
•••
عدت إلى تونس مرارا قبل أن أحل عليها ضيفا لست سنوات متصلة قضيتها نائبا لرئيس الإدارة العامة لشئون فلسطين بالجامعة العربية. أما كيف قادتنى الظروف إلى هذه الرحلة الطويلة فتتضمنها حكاية لم يسبق لى أن أرويها شفاهة أو كتابة. ذات صباح فى يوم من أيام صيف سنة 1981 اتصل بى مسئول يشغل مناصب مرموقة فى أعلى أجهزة الدولة. جمعتنى بهذا الشخص علاقة تقدير متبادل. أعجبت بمهارته فى إدارة أمور جوهرية فى الدولة المصرية من وراء ستار. لم يحب الظهور ولكن أحب السلطة فأدمنها. كنت أكتب بانتظام فكان يقرأ ويحترم ما قرأ ولا يعلن. كثير مما كتبت، وهو غير جارح وإن مستفز، قرأه ولم يتصل ليعترض أو يناقش. كان يحضر بانتظام جلسات للعصف الفكرى حول قضية أو أخرى من قضايا هى من اختصاص أجهزة صنع القرار. يكتب كل كلمة ويناقش أحيانا. كتبت عاليه أنه اتصل فى ذلك اليوم من الصيف. استغرقت المكالمة أقل من دقيقة فكلماتها معدودة، قال «سمعت أنك سوف تسافر إلى بيروت غدا أو بعد غد، بالسلامة». لم يكن فى جدولى عزم على سفر قريب، ومع ذلك اتصلت على الفور بمكتبى مع تكليف عاجل بحجز مقعد على طائرة فى الغد وتفضيل الرحلة الصباحية. فهمت الرسالة وتفهمت أسباب غموضها وإلحاحها وسافرت فعلا فى اليوم التالى من القاهرة إلى بيروت ومنها بعد أيام إلى تونس. هناك وفى شهر سبتمبر وصلتنا أخبار اعتقال العدد الغفير من مفكرى مصر من جميع التيارات والميول السياسية. عملا بنصيحة المسئول المختفية وراء مكالمته القصيرة سكنت تونس، ولم أعد إلى القاهرة إلا بعد ست سنوات.
اخترت للسكن بيتا مريحا فى ضاحية قرطاج. يطل البيت على شارع لعله كان من أجمل شوارع العاصمة. شارع تحفه من الجانبين أشجار النخيل الفارهة ومنازل أنيقة وبسيطة، الواحد أجمل فى بساطته من الآخر. ينتهى الشارع عند البحر وتقوم هناك على جانب من جانبيه أطلال قلعة ومسرح ومقابر رومانية وقرطاجينية. قرطاج ليست واحدة. كنت أسكن فى «قرطاج الرئاسة» حيث يوجد على مقربة من مسكنى قصر الرئاسة يقيم فيه ويدير منه شئون الدولة رئيس جمهوريتها. وبجوارنا أو يحيط بنا قرطاج «حنبعل» نسبة إلى القائد المغوار الذى خرج لمحاربة الرومان مع جيش جرار وحشد من الأفيال، عبر بها البحر المتوسط واعتلى معها جبال الألب ونزل مكتسحا سهل لومبارديا وتقدم جنوبا حتى وصل إلى روما. هناك أيضا على ما أذكر قرطاج «اليسار»، وهى شقيقة حنبعل جاءت من صور فى لبنان لتحكم من هناك إمبراطورية الفينيقيين فى أفريقيا ومركزها قرطاج.
لهذه الكتلة القرطاجية أهمية فى هذه المفكرة الموجزة. إذ تكاد هذه الكتلة تلاصق حى سيدى بوسعيد. على أطراف هذا الحى الأقرب إلى حيث كنت أسكن أختار ليسكن قريبا منا بعض مشاهير تلك الفترة. بينهم أبو جهاد وأبو الهول وأبو إياد وأبو مازن. سمعت بعد عودتى إلى القاهرة أن عددا منهم قتل على أيدى إسرائيليين وهم فى منازلهم.
إن نسيت فلن أنسى هؤلاء الأبطال الذين قتلوا، وبخاصة أبو إياد الذى كنت التقيت به فى القاهرة فى بيت الصديق العزيز محمد الفرا بمصر الجديدة، ليلتها أسمعنا روايات حقيقية وصادقة عن تفاصيل علاقات الثورة الفلسطينية بزعامات وحكام الدول العربية. أقول حقيقية وصادقة لأننى عشت فى تونس جارا وزميلا لقيادات فلسطينية من مستويات مختلفة حكت لنا الروايات ذاتها ولكن بعد دبلجتها إلى لغة اللحظة السائدة. أذكر أيضا ليلة اصطحبنى فيها الراحل الصديق لطفى الخولى، وكان قد أفلت من اعتقالات خريف الغضب لوجوده فى باريس، ولينتقل منها إلى تونس، اصطحبنى إلى اجتماع يترأسه أبو عمار فى مقر مكتبه فى شارع يوغرته بحى يعرف باسم مدينة التضامن القريب جدا من العاصمة. مرة أخرى أشاهد الزعيم الفلسطينى وهو يتكلم. تارة أصدق ما يقول، وتارة أخرى أتفهم مراوغاته ومبالغاته فيما يقول. مرارا وتكرارا كنت شاهدا عليه وعلى كثيرين غيره من قادة الأمة العربية خلال الاجتماعات المغلقة لمؤتمرات القمة التى حضرت منها عددا لا بأس به، ومع ذلك لم أفقد يوما الأمل.
•••
كانت مرحلة عائلية هادئة. كان يسكن على مقربة منى زميلات وزملاء جلبوا للحى دفئا منعشا. أعود من عملى فى الثالثة بعد الظهر أحمل رغيفين من الخبز الفرنسى أحدهما معضوضة رأسه. تستقبلنى ابنتى الصغرى وكانت فى التاسعة من عمرها أو أكبر قليلا. أظن أنها أكثر من استمتع فى العائلة بالانتقال إلى تونس. تعود من المدرسة، تخلع زيها الرسمى وتنطلق إلى الشارع الجميل تمد يدها إلى الأشجار على الطريق لتقطف لنفسها أو تستدعى من يقطف لها حبات اليوسفى وتنتظر عودتى. تسألنى كل يوم عن المسئول عن قضم رأس «الباجيت» فيكون جوابى، إنه الفأر اللعين. قررت بعد حين أن تذهب معى إلى الفرن على مدخل ضاحية قرطاج لتتلقى بنفسها أرغفة الخبز والكعك الخارجة لتوها من الفرن. فى الطريق أرادت كل مرة أن تبهرنى بما حفظت من شعر العرب ونصوصهم الأدبية. كانت سعيدة بما حفظت فى هذه المدرسة وبمن صادقت وبكلمات قليلة من لغة الفرنجة. فى أيام العطلة الأسبوعية وفى العطلات الصيفية عندما يكتمل نصاب العائلة نذهب إلى ضاحية قامارت. هناك يحلو للجميع اقتطاف حبات التين الشوكى ونعود ليبقى الشوك الذى حمله هواء البحر عالقا يشعرنا وملابسنا لا يرحل إلا بحمامات عديدة متتالية.
لنا فى هذه الضاحية وأقصد قامارت جولات. هناك يوجد بعض أرقى مطاعم تونس وفنادقها. هناك قضيت أوقاتا ممتعة فى صحبة كبار الضيوف القادمين من القاهرة وغيرها من مدن الخليج والمشرق. كنت والصديق الراحل صلاح ماميش نتناول معا الغداء أو العشاء عندما تغيب زوجتى والأولاد فى شهور الشتاء. كانت لصلاح طقوس نحترمها، كنت أفضل الخروج لتناول الغداء يوم السبت ولكنه كان يفضل الأحد. عذره الذى لا يحيد عنه هو أن السبت سواء فى مصر أو فى تونس مخصص لأحذيته العشرين. إنه اليوم الذى تصطف فيه الأحذية صفين فى انتظار الطلاء ثم التلميع فالعودة إلى قوالبها الخشبية.
•••
للبيت الذى سكنت أكثر من قصة. جرت فيه خلال سنوات إقامتى بتونس مقابلات مطولة مع ضيوف أرتاح لهم وأعتز بما يمثلون فى سيرتى الشخصية. من هؤلاء أحمد بهاء الدين الذى لم أعرف له مثيلا فى إنسانيته وغزارة علمه ومعلوماته. منهم أيضا محمود رياض، الرجل الهادئ الخبير بلا ادعاء فى الشئون الخارجية والعارف بذهنية حكام العرب ربما أكثر من أى شخص آخر عرفته واشتغلت تحت قيادته، ومنهم محمد حسنين هيكل، موسوعة فى السياسة والصحافة وحفظ الشعر والقرآن الكريم وبراعة وفراسة فى سبر أغوار من يلتقى بهم أو يعمل معهم. ومنهم أيضا محمد سيد أحمد الصديق الذى ملأ مع سميح صادق زميلى فى الدبلوماسية وما بعدها فراغا فى مراحل متعددة من حياتى. كثيرون قضوا فى هذا البيت ساعات أو أياما. منهم أيضا زوار دائمون من هواة ومحترفى الحوارات السياسية والثقافية وأغزرهم إبداعا لطفى الخولى. آخرون تونسيون ولبنانيون وفلسطينيون وغيرهم جعلوا من إقامتى فى تونس واحدة من أهم المراحل فى مسيرة حلى وترحالى.
قبل أيام من انتقالي من بيتي إلى فندق في الحي ذى التقاليد العريقة والمناظر الخلابة، أقصد طبعا حي سيدي بوسعيد، قابلت بالصدفة الآنسة أبريل جلاسبي يسبقها كلب هائل الحجم. كانت صدفة طيبة إذ مضت مدة طويلة على آخر لقاء لنا حين كانت تعمل بالسفارة الأمريكية في القاهرة. أبلغتني أنها في تونس في وظيفة إدارية، إذ جرى تكليفها بإدارة المعهد الخاضع للاستخبارات الأمريكية والمعروف بمعهد شاملان ومقره الأصلي جبل لبنان، مهمته تدريب الدبلوماسيين وأعضاء الأجهزة العاملة في الشرق الأوسط على لغات المنطقة ولهجاتها وتقاليدها وتراثها. ومقره المؤقت مدينة تونس. فهمت من الحديث معها على مدى لقاءات متعددة أنها، ولم تقلها صراحة ولكني تحريت، تنفذ عقابا قرره هنري كيسنجر كوزير للخارجية بسبب مقابلات أجرتها مع فلسطينيين يعملون في وفد فلسطين في الأمم المتحدة عندما كانت تعمل في الوفد الأمريكي. تذكرت الآن أنني قابلتها مرة أخرى في القاهرة عندما التقينا بصدفة أيضا بعد سنوات على لقاء تونس، التقينا على سطح مقهى عائم في حي الدقي يملكه رجل أعمال شهير. عرفت منها أنها زارت إقليم غزة بتكليف رسمي من الوزير الجديد ورحنا نناقش مستقبل الصراع مع إسرائيل. عند لحظة التوديع قالت وعلى فمها ابتسامة أصبحت أعرف معناها، قالت ما معناه "أنصحك بصفتك خبيرا في تفاصيل القضية أن تهتم من الآن فصاعدا بشاب من شباب الانتفاضة، لعب دورا كبيرا في تنظيمها وقيادتها، وكان قريبا جدا من أبو جهاد. هذا الشاب سوف تسمع اسمه كثيرا". عملت بنصيحتها. تابعت صعود الشاب. كانت جلاسبي على حق، فقد صار واحدا من كبار رجال الأعمال ومقره دولة الإمارات ويتحرك كثيرا في اتجاه غزة ويقود هذه الأيام تيارا يسعى لإصلاح حركة فتح ويتردد أنه يحلم بقيادة الحركة ومنها إلى قيادة منظمة التحرير.
•••
عدت إلى القاهرة لأكتشف أن بيتى فى قرطاج وما دار فيه على امتداد ست سنوات كان محل اهتمام دوائر معينة فى القاهرة. وصلت من المطار لأجد فى شقتنا بالمهندسين أقارب ومعارف فى انتظار تهنئتى بالعودة. بعد ساعة جاءت ابنتى الأكبر إلى حيث كنت أجلس مع شقيقتى الصغرى ومعها الهاتف يجر وراءه سلكا طويلا. هناك على الجانب الآخر صوت يرحب بوصولى بدفء شديد، قدم نفسه فانكتم صوتى لثوان. قال إنه النقيب فلان وأنه ورؤساءه سعداء بوصولى ويعقدون الأمل على لقاء فى محل عملهم فى أقرب وقت. رغم دفء حفاوة المتحدث ومشاعره لم أستحسن الدعوة. جاء ردى بعد برهة وأظن أنه كان موفقا. شكرته وأبديت الترحيب بفكرة اللقاء الودى متمنيا أن يكون فى بيتى. بعد ساعة أو أقل كان فى بيتى اثنان برتبتين متفاوتتين. خرجت زوجتى إلى الصالون الخارجى حيث كانا يجلسان تحمل لهما الشاى ومرفقاته، سمعتها تشكرهما على اتصالهما الدائب بالعائلة للاطمئنان وحل مشكلات مع البيرقراطية لم تقوَ مع أولادى على حلها فى غيابى. شربا الشاى ونهضا لينصرفا بين استغرابى الشديد. وبينما كنت أمشى معهما لباب الخروج سحبنى جانبا الأقدم رتبة وهمس قائلا «أتعبتنا بنشاطك الاجتماعى والحوارات شبه اليومية التى جرت فى بيتك بتونس على امتداد سنوات، أهلا بك فى بلدك وبين أولادك. لا تتردد فى الاتصال بى أو بزميلى الذى قرأ كل ما كتبت فى حياتك فهو الخبير بك بيننا ويقدرك ويحترمك».
عدت ولم تغب تونس عن بالى. زرتها مرات عديدة بعد تلك العودة. كانت تتغير ربما إلى الأحسن فى رأى بعض الناس وربما نحو مصير غامض حسب رأى آخرين. حبى لها باق.