توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تأخر الخريف فجاء دافئا وحنونا

  مصر اليوم -

تأخر الخريف فجاء دافئا وحنونا

بقلم:جميل مطر

كانت الأقدار كريمة معى. لم تبخل بأسباب الفرح والسعادة. نعمت بالذرية الصالحة والزوجة المطيعة تماما كنص الدعاء الذى صاغته وكررته جدتى على مسامعى وأنا طفل فى الثانية من العمر جالس على فخذها تشاركنى فيه واحدة أو أكثر من بنات خالاتى. عشت بعض سنوات حياتى أتمتع بجمال خارق لطبيعة مذهلة وسنوات أخرى فى كنف شعوب تألقت فى صنع أطايب الطعام والشراب، وللمفارقة تألقت فى صنع حضارات واحتلت مساحات فى سجلات التاريخ. حصلت على فرص عديدة منها أبى وأمى ومسئوليات متنوعة ورؤساء ومرءوسين وصداقات وعلاقات، منها مجتمعة تكونت لى شخصية لا أزهو بها ولكن بالتأكيد لا أشكو من نقص فيها أخجل منه.
عشت أياما رائعة فى مكان أو آخر. بعض تلك الأيام كان فى القاهرة بوجهيها، قاهرة المعز والقاهرة الخديوية وأطرافهما. أذكر جولاتى السياحية فيها مع أبى. عشت طفولتى قريبا من أبواب القاهرة، النصر والفتوح وزويلة، وقضيت فى الصاغة والعطارين وبين القصرين والمعز ساعات وساعات بالنهار كما بالليل، وأكلت فى مطعم الدهان مرات ومرة مع أساتذتى وزملاء السنة الرابعة النيفة والكباب وفتة الأكارع وصوانى إسماعيل باشا احتفالا بتخرجى بشهادة العلوم السياسية. نفس اللحظة عشتها مرة أخرى فى مطعم شهير فى مدينة مونتريال فى احتفال بحصولى على شهادة الماجستير. كانت المرة الأولى التى أتناول فيها شريحة لحم مشوية بعد عامين من تقشف شديد فى الإنفاق دفعت به ظروف الدراسة والمعيشة. لا أخفى، ولم أخف وقتها، صعوبة تنفيذ قرار العودة إلى الجامعة بعد غياب أحد عشر سنة عن التلمذة فى خدمة الدبلوماسية المصرية أتجول وألاحظ وأتعلم وأقارن بين الهند والصين وإيطاليا وشيلى والأرجنتين. تلك كانت سنوات فى ربيع حياتى. لم تكن كلها سنوات بهجة ولا كانت كلها سنوات مشقة. كانت سنوات ربيع كربيع مصر، تعكر الخماسين بعض إيامه.
•••
أذكر من خماسين ربيعى أمثلة فارقة، اثنان اقتربا من خط النهاية، نهاية مبكرة لحياتى. الأول حين «تطوعت» لإجراء عملية جراحية غير مأمونة الجانب ولا مأمونة العواقب. أقول تطوعت لأننى لم أستجب لنصيحة أطباء باتباع نظام غذائى طويل الأجل ووافقت، على غير مضض، على اقتراح طبيبين إجراء جراحة لا تجرى إلا نادرا وفى حالات خاصة جدا. يقول الجراح الإيطالى المتدين جدا أن قوة خارقة تدخلت فأوقفته وأجبرته بعد أن فتح البطن أن يطلب استشارة رفيق وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. جرى البحث عن الرفيق وقد عثرت عليه شرطة الطوارئ خارج المدينة فى حفل ساهر وجرى استدعاؤه. عند الفجر تقرر عدم الاستمرار فى تنفيذ الجراحة والعودة بسرعة ودون مزيد من التأخير عن خط النهاية.
قبل هذه الجراحة بثلاثة أعوام وكنت فى طائرة تقلنى وعائلتى من هونج كونج إلى القاهرة فى طريقنا إلى مقر عملى الجديد فى روما. كانت ليلة عاصفة يعرف مثلها كل من عاش فى بلاد تتعرض للهجمات الشرسة التى تشنها الرياح الموسمية. يذكر للطيار نجاحه فى تجاوز الأقاليم الحرجة الواقعة على خط الرحلة بالابتعاد قليلا عنها إلا أنه عاد إلى منطقة الخطر عندما اقترب من بومباى، المسماة الآن بمومباى. قضينا نصف ساعة فى طائرة صارت فى قلب العاصفة كطائرة الورق التى كثيرا ما لهونا بها على شاطئ سيدى بشر فى الإسكندرية. تصعد بها الرياح إلى أعلى علو وتهبط بها فجأة فى هوة سحيقة قبل أن تعود فتصعد بها إلى السماء. الركاب، ومعهم المضيفات والمساعدون، وبينهم نساء وأطفال كبار وصغار كلهم يصرخون. وفى إحدى مرات الهبوط فى هوة سحيقة استمرت الطائرة تهبط حتى ارتطمت بأرض زراعية قريبة من المطار واشتعلت فيها النيران.
•••
أذكر وبمسحة من الرضا والعفو أحداث خماسين ربيعى، ولكنى أذكر أيضا وبكل الهنا والمحبة أياما وليالى عديدة صافية ورائعة عشتها خلال هذا الربيع الطويل. تعمدت العودة إلى مواقع فى الماضى لأمحو بالرضا ما فعلته أو تسببت فيه خماسين عمرى. عدت إلى الهند وزرت بومباى ونزلت طبعا فى مطارها. عدت إلى الصين، تجولت خلسة فى حديقة ملحقة بقصر الحكومة خصصت للعاشقين من الشباب، كثيرا ما زرتها مع الزميل والصديق نزار قبانى، هناك قضينا معا ساعات نقارن الحب فى الصين بالحب فى مشرقنا. عدت أيضا إلى روما عاصمة الجمال والحب والحياة الحلوة وزرت موقع مستشفى سانتا روزا فيما كان بضاحية وصار فى القلب. جيد جدا أن تعود لزيارة مكان كان مسرحا لمعاناة وشاهدا على ظلم أو قهر من الطبيعة أو من البشر. تعلمت أن العودة تمحو آثارا قاسية على الروح والنفس وتعزز آثارا منعشة، فى العودة نكتشف طيبات لم نشبع منها فى الزيارة الأولى ونروى ظمأ كان الظن أنه لن يعود.
•••
كتبت السطور الفائتة بالليل وأتيت هذا الصباح لقراءة ما انتهيت إليه فى الليل لأضيف أو أحذف. اكتشفت أننى خالفت النية والعزم. لم يكن فى النية الكتابة عن ربيع العمر، ولا عزمت أو اشتقت للكتابة عن الماضى بحلوه ومره. لم أبالغ ولا حروفى تجاوزت حين عبرت عن ربيع كان كريما وشابا حتى جاء يوم قررت منفردا أن نفترق، ربيعى وأنا. أتركه وأدلف إلى خريف العمر. أتخلى عنه قبل أن يتخلى عنى. عزمت على أن أكون أنا المبادر بالافتراق عن الربيع والاقتراب من الخريف والتسرب فى عروقه دون استئذان. لم أهمل أو أتجاهل اعتراضات متوقعة من جانب أطراف فى داخلى ليست هامشية أو سطحية مستفيدة وبعضها مستمتع بمزايا العيش المستمر فى حضن ربيع العمر.
•••
آن أوان التعبير الصريح والصادق عن خريف العمر، عن طراوته وطيبته وشغفه بالحياة، عن دفئه وصدقه وصراحته.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأخر الخريف فجاء دافئا وحنونا تأخر الخريف فجاء دافئا وحنونا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon