توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الزعامة فى العالم العربى.. التجربة التونسية

  مصر اليوم -

الزعامة فى العالم العربى التجربة التونسية

بقلم:جميل مطر

شهر يمر بعد شهر وشكوى الناس فى تونس من السياسة تزداد ترددا. جربوا الديموقراطية بعد مدة طويلة من حكم غير ديموقراطى. عشت معهم مرحلة من مراحل حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لم أشكُ ولا كانوا يشكون. فواقع الحال كان يشهد بأن هؤلاء الناس لم يعرفوا من قبل نظاما غير هذا النظام ولا حاكما غير هذا الحاكم. خرجوا من الاستعمار ليجدوا الرجل فى انتظارهم وفى وعيه يتردد صدى قناعته أنهم خرجوا من الاستعمار على يديه. لولاه ما كان الاستقلال ولا كانت تونس الحديثة. كان زعيما مذهلا. خفيف الظل، يأخذ نفسه بمنتهى الجدية حتى وهو يسخر بنفسه على نفسه وعلى القريبين منه وعلى بعض المواقف فى مسيرته السياسية.
تعرفت على بعض هذه الجوانب فى شخصيته من خلال مناسبات مختلفة. سمعت عنه وقرأت قبل أول زيارة لتونس العاصمة وكانت قصيرة جدا. ذهبت إلى هناك فى صحبة الصحفى اللامع فعلا وواقعا محمد حسنين هيكل بعد أن ترك الأهرام مباشرة. سافرنا بدعوة من الرئيس شخصيا بعد أن أبلغه أصدقاؤه فى القاهرة عن كتاب يزمع هيكل كتابته عن العالم العربى على إثر مقابلات يجريها مع عشرين رئيس دولة عربية من ملوك وأمراء ورؤساء، استظرفت سيرة الزعيم قبل أن أسمعه يكرر أمامنا بكل الاعتزاز والسخرية الذاتية مواقف له ونوادر خلال رحلة كفاحه ونضاله من أجل تونس.
•••
بدأ، وهكذا يبدأ فى العادة الزعماء من نوعه، بدأ بالهجوم. ففى رأيه أخطأ الأهرام فى حقه على امتداد عهد الثورة. لم تحظ مكانته كزعيم باعتراف الإعلام المصرى. قال ما معناه أنه كان واثقا من حب شعبه له حتى إنه دعا عبدالناصر لزيارة تونس، وأقام للحفاوة به فى مدينة بنزرت مؤتمرا شعبيا حضره عشرات الألوف. أضاف أن الناس كانت تهلل وظن عبدالناصر أن الهتافات وعبارات الترحيب الصادرة من الجماهير كانت له. وقال إن عبدالناصر لم يدرك ساعتها أنها كانت لزعيمها وليست له. لم ينس بورقيبة، كما لم ينس فى مقابلاته العديدة مع زوار عديدين، أن يحكى حكايته مع الجندى المصرى المكلف بحراسة حاجز المرور فى مدينة السلوم على الحدود مع ليبيا خلال مرحلة كفاحه ضد الاستعمار الفرنسى ولجوئه إلى مصر. أوقفه الجندى لعدم وجود ثبوتات شخصية. غضب بورقيبة بشدة وراح يصرخ فى وجه الجندى الذى لم يتعرف للوهلة الأولى على شخص «سى الحبيب بورجيبة» الزعيم الكبير. وطلب أن يتحادث هاتفيا مع وزير الداخلية الذى أمر الضابط المقيم بالسماح للمناضل التونسى بدخول الأراضى المصرية.
استشف الرئيس أننا لن نمانع فى شرب كأس ثانية من الشاى المرصع بالصنوبر. أمر احد المساعدين بطلب الشاى وسألنا إن كنا ننهض ونمشى معه لنتفرج على صور وتماثيل صغيرة وكبيرة تحكى حكاية مسيرة نضاله، (التى وحسب معلوماته لم يقم بمثلها زعيم آخر فى البلاد العربية). توقفنا طويلا أمام تمثال برونزى للرئيس ممتطيا حصانا، التمثال متقن الصنع إلى درجة أنه يذكر كل مصرى يراه بتمثال إبراهيم باشا فى ميدان الأوبرا فى وسط القاهرة. وفى المرتين اللتين زرت فيهما الرئيس بورقيبة استمعت إلى كامل حكاية الرئيس عن حياته فى القاهرة. ومنها أن الرئيس كان يتقاضى فى ذلك الوقت مكافأة شهرية قدرها أربعون جنيها مصريا تدفعها جامعة الدول العربية ضمن مكافآت عديدة تمنح للمناضلين العرب اللاجئين فى مصر. هناك كان يجلس فى الكازينو المطل على ميدان الأوبرا ساعات وساعات يتخيل نفسه محل ابراهيم باشا ممتطيا الحصان. النسخة التونسية للتمثال بنفس الحجم تزين الآن أهم شوارع العاصمة التونسية، شارع الحبيب بورقيبة، الشهير بجادة الشانزليزيه تشبها بقرينه فى باريس.
الحديث عن، أو مع، أول رئيس لتونس لا يمل. أذكره وهو يطل علينا من شاشة التلفزيون فى الثامنة إلا خمس دقائق كل ليلة. يحكى فى كل حلقة حكاية جديدة أكثر تشويقا وصراحة من حكاية الليلة السابقة. أهتم بأمرين على وجه التحديد. أهتم بالنساء وحقوقهن وبالشباب وأحلامهم. أما النساء فعاش فخورا بما صنع من أجلهن وللشباب يحضهن على التمرد، ومن أقواله المأثورة ما تضمنته الدعوات المتكررة على لسانه للشباب بالخروج مع السائحات اللائى يأتين إلى تونس بفضل تسهيلاته للسياحة وعلى وجه خاص الفرنسيات مذكرا إياهم بزوجته الفرنسية التى أنجبت له ابنه الوحيد. تزوج بعدها أو معها التى كثيرا ما كانت تحتج على ما كان يحكيه عن شئونهما الخاصة جدا أمام ملايين المشاهدين.
•••
رحل بورقيبة وبقيت تونس. أزيح عن الحكم وكان لإزاحته ما يبرره. إذ تكررت شهادات زواره ومساعديه عن ضياع ذاكرته وفقدانه الصواب فى قرارات حكم عديدة. إلا أن للسياسة أحكاما. جاء زين العابدين بن على. ظن أنه وقد حل محل زعيم محبوب فسوف يأتيه الحب طواعية. لم يأت الحب بل الشكوى. تراكمت الشكوى حتى صارت غضبا انفجر تمردا ضد الحاكم وزوجته وعائلتها التى قيل إنها تغولت فسادا وضد نخبة الحكم بأسرها. تطور التمرد فصار ثورة سوف يسجل التاريخ لها أنها كانت كشرارة أشعلت سلسلة من الانتفاضات والثورات فى دول أخرى. جربت تونس امتدادا لثورتها نظاما ديموقراطى الشكل وليس الجوهر. هلل له العالم الغربى وبكثير من التطبيل فرضه نموذجا لديموقراطية عربية يجب أن تعمم. كنت أحد القليلين الذين لم يطمئنوا لمستقبل هذه الديموقراطية، والسبب أنها جاءت محمولة على أكتاف جماعتين غير مدربتين على العمل الديموقراطى أو بالقول الصريح غير معروف عنهما نوايا طيبة تجاه النظام الديموقراطى الحقيقى. كانوا إما ذوى رؤى دينية متطرفة سياسيا أو من بين من نشأ وتربى سياسيا فى حضن النظام الفردى.
هؤلاء انتظروا ونالوا. أتى إليهم الحكم وأكثرهم غير مدرب أو فاسد حتى جاء من خارجهم رئيس منتخب لم يعجبه حال تونس فى ظل هذه الديموقراطية الجوفاء. كان قيس سُعيد يدرس فى الجامعة أسس وقواعد النظام الديموقراطى ضمن محاضراته فى أصول ومبادئ القانون الدستورى. ما وجده فى انتظاره لا يتطابق أو يتقابل مع الأصول والمبادئ التى كان يلقنها للطلبة. ولكنه، وللحق الذى يجب أن يقال، لم يكن يمتلك، عندما وصل إلى القصر فى قرطاج، ولو ذرة من خبرة العمل السياسى. والسياسة حرفة من لا يمتلك نواصيها ويعرف مواقع مطباتها ويجيد أساليبها يضيع فى مسالكها أو يتعب ويرهق فيغضب ويتأخر فينفض عنه الناس فى نهاية الأمر. عندئذ يكتشف الجميع أنهم الخاسرون. وعندئذ يلجأ كبار السن من التوانسة إلى ممارسة هواية المقارنة بين زعيم ساخر طول الوقت وخفيف الظل وطيب المعشر وغير منتخب ومستبد ولكن بنعومة وبين رجل منتخب لم يعرفه الناس من قبل، رجل لم يناضل أو يقود ولا يتحلى بسمات الزعامة، لا يوصف بخفة الظل ولا ينتمى بالعمر أو بالتجربة لعصر الدهاة من بناة الأمم. صادق ولكن فى زمن أغبر. هؤلاء، وقد تحدثت طويلا مع نفر غير قليل منهم، يكتشفون متأخرين أن الديموقراطية الحقة لا تأتى بالنوايا الطيبة وحدها ولكن معتمدة على تراث وخبرة وكلاهما للأسف غير متوافرين فى معظم إن لم يكن فى كل أنحاء العالم العربى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزعامة فى العالم العربى التجربة التونسية الزعامة فى العالم العربى التجربة التونسية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon