بقلم:جميل مطر
أنت، أعنى حضرتك، لا تعرفنى وأنا لا أعرفك. لا شك فى أن هذه البداية أثارت فضولك. أعدك أن أشبع هذا الفضول أو جانبا منه دون أن أتجاوز عهدا التزمت به كما عودت وتعودت. أبدأ من بعيد. أبدأ من يوم كنت فيه شاهدة على لقاء جرى فى حفل عام. اللقاء كان بين اثنين فى عمر الكبار. وبالكبار فى هذه الرسالة أقصد المتقدمين فى العمر، وبالمتقدمين فى العمر أقصد من هم فوق السبعين. الاثنان تعارفا قبل خمسين عاما من هذا اللقاء. وقت اللقاء كانت هى فى الخامسة والسبعين وكان هو فوق الثمانين بسنة أو سنتين وطلبت منى أن أرافقها. قدمتنى إليه. لست متأكدة إن رآنى. تمتم بكلمة أو كلمتين ولم يمد يده ليحيينى أو على الأقل ليلتقط يدى الممدودة إليه. أعادت تنبيهه فمد يدا مترددة ناحيتى وبصره متوجه إلى ناحية أخرى، إلى ناحيتها. لا أعرف حتى يومنا هذا كيف وجدت نفسى ألتقط اليد الممدودة بكسل إلى ناحيتى وأعيدها إلى مكانها وعلى وجهى ابتسامة من فهم شيئا لم يفصح به أحد.
كانت لحظة لا تنسى، لحظة لا يمكن أن تتكرر لأنها أطلت من الماضى. وما يطل من الماضى لا يبقى طويلا أو هكذا كنا نعتقد أنا وأبناء جيلى من الشباب. ما أكثر ما سمعت من جدتى عن هذا الماضى ودور الاثنين، دورهما أى جدتى والرجل الواقف أمامها، فى صنع هذا الماضى أو جانب منه. سمعت منها الكثير واحتفظت به كما كنت أحتفظ بحواديت قبل النوم، تلك التى كانت تحكيها لنا مربيتى وتتحدانا أنا وأخواتى الأكبر أن نأتى بمثلها. حاولنا وما زلت أحاول وفشلت. المدهش أنه خيل لى فى مرحلة أو أخرى أن جدتى كانت هى الأخرى تتحدانى أن آتى بمثل حكايتها، أن تكون لى حكاية من نوع حكايتها. كانت تمتلئ بالنشوة وهى تقول: «امرأة لم تعش حكاية مثل حكايتى امرأة لم تمارس أطيب ما فى الحياة. عاشت ولم تكتمل أنوثتها. دخلت إلى الدنيا وخرجت ولم تحفر لنفسها فى سجل التاريخ اسما ودورا». الحواديت كانت تنتمى إلى ماض بعيد وحكاية جدتى إلى ماض قريب، كلاهما فى النهاية من ماض لا يمكن بعثه ومن تفاصيل مستحيل أن تتكرر.
•••
سيدى
لماذا أنت؟ أنوب عنك فى السؤال وأجيب. حضرتك لا شك تذكر أنك كنت من مهد بشكل من الأشكال ليتم اللقاء فى أبهى صورة. مهدت له لأنك الوحيد الذى عاصر مرحلة وقوع الطرفين فى الحب. كنت أنت الذى تابع صعودهما إلى أعلى مراتبه وكنت هناك عندما أجبرتهما إرادة صارمة على الافتراق وبقيت أنت الرفيق الخفى الذى يعلم كل ما أخفاه الواحد منهما عن الآخر ولم ينقل لهما ما كانا يجهلان. تزوجت جدتى بترتيب يليق ببنات طبقتها. أما هو فتزوج زميلته فى العمل وعندما هجرته راح يجوب العالم. عاش مع كثيرات وعندما اقترب من سن الشيب تزوج مرة ثانية واستقر حتى جاءه منك حسب ظنى خبر فرصة لقاء مع الحبيبة الأولى، والوحيدة.
أحبتنى جدتى حبا رائعا. عشت معها بعض مراحل النشأة وبخاصة مرحلة المراهقة. انغمسنا معا فى الاستمتاع بأسرار لا تخرج إلى طرف ثالث. عرفت منها على مراحل حتى حفظت تفاصيل اول حكاية حب فى حياتها، واسمحلى يا سيدى بأن أحطم حاجز التعتيم الذى أقمناه جدتى وأنا لحماية أسرارنا، ويجئ رفع التعتيم ضمن التكليف الصادر منها قبل رحيلها. طلبت أن أكون معك صريحة فى كل صغيرة وكبيرة من حكاية حبها وفى كل صغيرة وكبيرة من واقع ومشكلات حياتى أنا العاطفية، عندما توجد. قالت ونحن نستعد للنوم ذات ليلة أنها تشعر بكثير من تأنيب الضمير. أرادت دائما أن تطلعنى على أجمل وأطيب حكاية فى حياتها، حكاية حبها، فإن أدارت الأيام لى ظهرها فغاب عنى الحب أو غبت عنه فسوف أعيش أنعم بذكرى حبها، أو أسعى لأن آتى بمثله. سعيت ولم آت بمثله ولا بقريب منه. قالت: «يا طفلتى، نعم طفلتى حتى وقد صرت فى الأربعين من عمرك، أخطأ الحساب كل منا. أنا لفرط سعادتى جسدت لك نموذجا للحب قدسته وجعلتك لا تريدين غيره. أنت لفرط ثقتك فى تعلقى بك وحمايتى لك ولحماستك الشديدة لهذا النوع من الحب وإيمانك به، رفضت كل نماذج الحب الأخرى. ظلمتك يا أغلى من فى وجودى. كنت أتعذب وأنا أراك تتقلبين بين صدمة هنا وخيبة أمل هناك، كنت أراك تجربين نوعا بعد آخر وتخرجين من كل تجربة مصعوقة بقسوة الألم. ليتنا انتبهنا فى وقت مناسب إلى حقيقة ناصعة. حبى نوع نادر لم نعرف لا أنا ولا أنت أنه كاد يصنف كأيقونة تراث. لم نعرف أن هذا النوع من الحب صار جزءا من الماضى. كل العناصر اللازمة لصنع هذا الحب اختفت أو تغيرت. الناس ليسوا نفس الناس، والقيم ليست نفس القيم، حتى العواطف والرغبات ليست هى نفسها».
صحيح كل ما قالته جدتى. بحثت وسعيت وجربت ولم أقابل من بنات وأبناء جيلى ولا جيل أمى وأبى من يفهم فى الحب كما مارسته جدتى. لم أجد بين أصدقائى وصديقاتى من جيل أو أجيال قريبة من جيلى من له تجربة مماثلة لتجربة جدتى أو حتى ما يشبهها. قيل لى وأنا فى السعى لا أهدأ. «كلماتك كأنها من سيناريو فيلم سينما مصرى قديم، أو منقولة من قصص وروايات مشاهير القصصيين المنشورة نحو منتصف القرن الماضى. نشاهدها أو نقرأها ونسمعها الآن كمادة للسخرية». حكايات جدتى لم تكن ولن تكون مادة للسخرية. كانت على الدوام وسوف تبقى مادة للارتقاء بالأحاسيس والنفوس والقلوب. سيدى: هل تتغير القلوب كما تتغير الأمزجة؟ عشنا نعتقد أن القلوب ثابتة على معنى ومضمون حب واحد وليس هو هذا الكوكتيل أو الخليط الغريب من رغبات وشغف وأوهام ومظاهر. خدعوا أنفسهم فأسموه الحب.
•••
قالت لي جدتي "يا طفلتى لا تذهبى بعيدا للبحث فى موضوع الحب بمعناه الكريم. كثيرون مارسوه أو خبروه أو فقدوه، هؤلاء هم كبار السن. هم ثروة، أو فى أدمغتهم وفى قلوبهم ثروة، أهملها المجتمع. لا تستهينى بقدراتهم الذهنية وإخلاصهم للماضى. اذهبي لمن أشرت عليك به. سمعت أنه يثق ثقة كبيرة فى ذكاء وصدق هذا القطاع من الناس المهم والمتزايد عددا. ستجدين عنده غايتك، أو بعض غايتك".
سيدى: اعتدت أن أتبع نصائح جدتي، أنا في انتظار موعد تحدده.