بقلم :جميل مطر
«عرفته طفلا. كنتِ أنتِ أول من أنعمت عليه بصفة الصديق الأقرب لى أو الصديق الحميم بلغة أطفال هذه الأيام. لم أكن أنا من اختار له هذه المكانة المتميزة فى روضة الأطفال التى تزاملنا فيها. كان سعيدا بها وفخورا. أمه قالت لأمى عندما التقت بها لأول مرة فى ندوة الآباء والأمهات أن ابنها لا يكف عن الحديث عنى أمام إخوته الكبار وأطفال النادى. باتت أنشطة الروضة ثانوية فى اهتماماته، الأولوية دائما لأنشطتنا الثنائية وأحيانا يضمك إلينا. أذكره طفلا ناعما حنونا وهادئ الطباع. كبرنا معا وانتقلنا إلى المدرسة. هناك كان يحمل عنى حقيبتى ويتعمد جذب انتباه التلاميذ أثناء حملها. بدورهم كانوا، فتيات وصبيانا، يفسحون له الطريق ليلحق بى، ولا ينازعونه على المقعد الملاصق لمقعدى فى الأوتوبيس. كانت أمى وأمه حريصتين على أن يكون لكل منا نصيب فى وجبة الغداء المعدة لنا فى البيت ويأتى بها إلى المدرسة عند الظهر عامل أو عاملة من عمال العائلة».
ردت صاحبتها: «كيف لا أذكر؟ كانت أحلى الأيام. البراءة كانت فى مظهرنا وفى سلوكنا وفى علاقاتنا. كنا لا ننفصل أحدنا عن الآخر إلا عند النوم. لم أشعر يوما فى وجوده أننى فى حاجة لمثله فى حياتى كما هو فى حياتك، شاركناك صداقتك له. كنا نضحك لضحكته وكأننا صدى لها. كم تشاركنا فى وضع كلمات أغنية ثم نلحنها ليغنيها بصوته. الطبلة مسئوليتك والبيانو تخصصى والصوت له. كبرنا معا. هو أطولنا قامة وأنت وأنا نتنافس على الحذاء بأعلى كعب أملا فى تقليل الفارق فى الطول بيننا وبينه. انتقلنا من الدراسة الثانوية إلى الجامعية. كان دائما الصديق الحارس. تذكرين حين تعرضنا لتحرش شرير فى إحدى رحلاتنا الخارجية فكان نعم المنقذ. ليلتها تحدثت مع أمك فى وجودى لتحكى لها كعادتك ما حدث، وقبل أن تستطردى فى حكايتك، سألَت أمك عن صديقك، أين كان لحظة التحرش وماذا فعل. وفى نهاية المكالمة راحت تذكرك أنها كانت على حق حين جعلت وجوده معنا فى الرحلة شرطا لتوافق على سفرك. أنا أيضا وأهلى كنا على حق عندما قررنا ذات ليلة وقد ساقتنا الدردشة الهادئة إلى الحديث عنه وطبيعة العلاقة الرائعة القائمة بينكما، قررنا أن هذا الرجل الذى عرفناه طفلا لم يتغير ولن يتغير. بدأت علاقته بك بصداقة طفولية رائعة وكبرت صداقة ناضجة لا تقل روعة وسوف تستمر ما بقينا، صداقة مثالية. نعمة من الخالق أسبغها عليك. صداقة غنية. أنا شاهدة فقد عشت عقودا فى ظلالها. لم أكن بهذا الشعور الجميل فريدة. صداقتكما كشجرة وارفة ظللت على كثيرين، عاشوا تحتها مطمئنين عليك وعلى أنفسهم.
«كان مطلعا على كل أسرارك، وأسرارى أيضا. مرات كثيرة سألناه الرأى فى شبان خرجنا معهم. لم يبخل برأى وهو الخبير فى فهم نفسيات الرجال، والنساء كذلك. تذكرين، وقد سمعتها منك فى اليوم نفسه، يوم نصحك بالحذر فى علاقتك بزميل فى العمل واصفا إياه بالاستهتار فى حياته الخاصة وعلاقاته بالنساء ومتهما إياه بأنه أنما يلهو معك أو بك. جاءت إجابتك صادمة ولكنه لم يعترض أو يعلق إلا بتأكيد نصيحته بضرورة التعامل مع هذا الرجل بحذر، إجابتك جاءت فى كلمات قليلة، اطمئن يا صديقى، أنا أيضا ألهو معه وألهو به».
•••
قاطعتها صاحبة الشأن قائلة «ليتك يا صديقتى كنت على حق. الملاك الذى تصفين ليس بملاك. كان ملاكا وفسد. خدعنى وخدعكم. غرر بى حتى صدقته. حقيقة لا أعرف كيف أواجه الناس وبخاصة أمى بالواقع الجديد. أنت أول وأكثر من يعرف تفاصيل هذه الصداقة التى أثارت الإعجاب والحسد فى آن. مارستها منذ طفولتى بإيمان وفخر. كنت مثلك واثقة أنها باقية معى ما بقينا على وجه الدنيا. أنت وهو عشتما معى تعرفان عنى ما لم يعرفه إنسان ثالث. تعذريننى إذا اعترفت لك، وأنت صديقة عمرى ما فات منه وآت، أننى أودعته أسرارا لم أشأ إطلاعك عليها. كان يعرف عنى أكثر مما تعرفين. بفضله صرت خبيرة فى الصداقة. أحترمها وأقدسها وأعرف قيمتها فى حياة كل من وهبته الظروف ما وهبتنى.
«اختلفت مع قائل أو قائلة أن الصداقة ليست أكثر من غطاء سميك لحب فاشل. الصداقة يا عزيزتى لا يمكن أن تكون غطاء لشىء فاشل أو ناجح. هى الشىء الأهم إن وجدت، وهى أيضا الشىء الذى يستطيع أن يتعايش مع أشياء أخرى بلا تناقض أو ألم. اختلفت أيضا مع القائلين أنها خصم عنيد للزواج. أنا لم أتزوج ولكنى أعلم علم اليقين أنها إن وجدت بصدق فستكون درعا يحمى عش الزوجية من غارات المغيرين والمغيرات ومن الشوق للمغامرة والتغيير ومن تحريض الملل والرتابة. أقول إن وجدت بصدق وأعنى أنه لا صداقة بدون صدق الطرفين فى النية كما فى المشاعر والتصرفات. اتفق معك يا صديقتى فى أن صداقات بقيت قوية إلى نهاية العمر. أتفق معك ولكن بتحفظ. نعم تبقى ولكن بشروط أهمها على الإطلاق أن تحتفظ بحصانتها ضد تسلل الحب وضد طغيانه إن أفلح فى التسلل. والعكس يصح أحيانا.
«غير مقبول من وجهة نظرى الجمع بين عقيدتين، الصداقة والحب. أما وقد اجتمعا عند بعض الناس فظنى الغالب هو أن الجمع وقع بين بعض الحب وبعض الصداقة، لم يقع بين الحب كله وكل الصداقة. تتردد فى بعض الأوساط الشبابية هذه الأيام حكاية اثنين التقيا وتحابا فتزوجا ثم انفصلا ويتعاملان الآن كصديقين. هذه الحكاية تفتقر إلى الجدية والدقة. أسألك، هل سيتعاملان على أسس الصراحة المطلقة التى تتطلبها الصداقة الحقة، أم هى الصداقة النفعية، صداقة لغرض أو آخر لا أكثر؟ كلاهما درج خلال فترة الزواج على أن يخفى شيئا أو أشياء عن الآخر. هذه العادة الزوجية لا تنسجم وحالة الصداقة الكلية والحقة، فالصديق وعاء مغلق بإحكام على كل الخصوصيات والدخائل بينما يفترض الزواج الصالح توافر خبرة لدى الزوجين على الاحتفاظ بمكنونات لا تباح لمن هب ودب وعلى رأسهم نفس الزوجين.
«صديقتى الأعز، أصرح أمامك وأشهدك على نهاية صداقة رائعة. صديقنا المشترك الذى كان يحتل مكانة صديق عمرى خان العهد، عهد الصداقة الحقة والكاملة. وقعت الخيانة يوم فاجأنى بإعلان حبه لى. لا أخفى عنك أننى قضيت بعدها ساعات عديدة أتخيله فى وضع حبيب أو زوج. لم ترق لى الفكرة بل لم تتحرك فى جسدى رغبة من أى درجة ولم يذهب خيالى إلى أبعد من اللحظة وواقع الحال. أنا غاضبة. ثلاثون عاما كانت حلما جميلا وتجربة كاملة فى أصول وآداب علاقة صافية، علاقة الصداقة، ضحى بها من أجل مشاعر غير مأمونة. تمنيت لو أن تصريحه تعلق بحبه لامرأة غيرى. أعرف أنه قادر على أن يبدع فى إخلاصه لامرأة يحبها، بل وقادر على أن يجعل لقصة حب قدسية قصته مع الصداقة.
«صديقتى، فقدنا صديقا غاليا يندر أن يأتينا القدر بمثله. تغلب الحب فى المنافسة مع الصداقة. أرجو أن تسامحينى على قسوتى فالفقد عظيم. لن يعود إلينا صديقنا حتى وإن حاول، فالحب إن تمكن قادر بسلطاته وسطوته على إضعاف ثم إزالة آثار من جاء قبله. أكرر أنه ما كنت لأغضب لو أحب غيرى وليته فعل فصداقتنا قامت على احترام خصوصياتنا وضرورة صيانتها. فقدت صديقا مشتركا حين تداخلت فى شبكة عواطفه الحدود بين صداقته العميقة لشخص بعينه وهو أنا وحبه الصادق لنفس الشخص. صديقى أخطأ فى حقى. أنا أتألم».