بقلم :جميل مطر
على مقهى فى أحد الشوارع القريبة من البحيرة فى مدينة جنيف جلستا ترشفان بصوت الهمس القهوة السويسرية الممتعة. تساءلت إحداهما عن سر المتعة فى هذه القهوة؛ أهو البن أو طريقة ودرجة تحميصه أو لعلها نسمات الهواء الباردة قليلا معظم الوقت، ولكنه الاقتناع بأنه، وأقصد الهواء المصاحب لشرب القهوة، يأتى إليك مغسولا فترتاح إليه وقد سقطت منه الأتربة والجراثيم إن وجدت، وفى الغالب لن توجد. تساءلت زميلتها بدورها عن هذا السكون المريب الذى يلازم كل مواقع المدينة، سواء كانت مقاهى أم حافلات أم سوقا لبيع الخضراوات والفواكه. أهى الجبال الشامخة بعد أن فرضت هيبتها، حتى أنها فكرت أن صدى الصوت الصادر فى وديانها يصل إلى القمم غليظا ومتضاعفا ربما كإنذار لمن أخطأ وصدر عنه هذا الصوت فى نبرة ليست كنبرات الهمس السويسرى. خاف الرعاة على أبقارهم الساكتة أن تتوه فى مسالك الألب ووديانه فأحاطوا أعناقها بعقود من الأجراس تكشف لهم مواقعها. لكنهم تركوا البشر بدون أجراس فهم ساكتون بحكم العادة والتقاليد، لا يتغير شىء فى حياتهم حتى الضيوف الذين يأتون إلى جنيف لدوافع دبلوماسية يتعودون خلال ساعات على احترام هذا السكون اللذيذ والممل.
•••
نظرت واحدة منهما إلى ساعتها لتنبئ الثانية بأن ثالثتهما تأخرت دقيقة ونصف عن موعدها، ردت زميلتها بأن طلبت منها الاستدارة، ها هى الثالثة تنزل من حافلة وسوف تعبر الطريق متوجهة إلى حيث تجلسان فى انتظارها. تابعتاها دون أن تنطق إحداهما بحرف ولكنهما تبادلتا النظر أكثر من مرة فى صمت وبفضول. صاحبتهما صارت أكثر جمالا وفتنة. الناس من مختلف الأعمار فى الشارع وفى الحافلة ينظرون نحوها بكل إعجاب وفى لياقة وأدب. نظراتهم إليها وهى تمشى فى اتجاه المقهى تكاد تصرح بأن هذه امرأة لم يأت الزمان إلى جنيف بمثلها. جسمها من نحت نحات قادر ومتمكن. جمالها من رسم رسام مبدع وواثق من كفاءة ريشته. لونها من لون وربما ملمس المرمر الأسمر مقتربا من الأسود وعيونها مع شفاهها عربية المزاج والفتنة. لم تستطع زميلتاها غض بصرهما عنها خلال الدقيقة التى استهلكتها حتى تصل إلى حيث جلستا، وقد وقفتا لتحيتها وبادرتا باحتضانهما كل على حدة، الحضن الواحد استغرق ثوانى ولكن عديدة.
•••
وصلت قهوتها. لم تنتظر لتبرد قليلا بما يسمح لها برشفة معتبرة تعيد لها، كما عبرت بنفسها، استقرارها النفسى بعد ساعات فى لقاء قلق ومتوتر. هى الآن فى صحبة حب حقيقى لا جدال حول نشأته وتطوره. هى الآن تستطيع أن تقول الحقيقة التى لن تجرح أحدا أو تثير غضبا أو حقدا أو كرها. قالت: «تذكران عصر يوم جئت إليكما أطلب منكما أن تقضيا الأمسية بعد العمل معى فى مطعم كنت ارتاده مطمئنة إلى نوع زبائنه والقيم التى يعيشون بها. ليلتها بادرتكما بعبارة شدتكما إلى الاستماع إلى ما كنت أنوى قوله. ولم أقله. ليلتها اعتذرت اعتذارات لم تقبلاها ولكن أعلنتما تفهمها.
•••
جئت إلى بلدكم لأستكمل تعليمى العالى. ثلاثتنا، قضينا معا وقتا لا ينسى. أنتما من أقنعنى بالعمل فى الشركة التى تتدربان فيها لأتدرب فيها بدورى. عملنا معا فتدربنا وجاء وقت تعين فيه أن أستقيل تأهبا للعودة. فوجئنا برئيس جديد يستلم ويطلب منا كما تذكران أن نتعهد له بالبقاء فى الشركة حتى تستقر أموره وأمور الشركة. كان يمكن أن أعتذر وأصر على قبول استقالتى. شىء ما منعنى. راوغت أهلى فى مسألة عودتى إلى وطنى وخطيبى متعللة بالتزاماتى تجاه الشركة التى آوتنى ودربتنى. الآن جاء وقت المصارحة. كنتم معى من الأوفياء الصادقين وتستحقان من جانبى الحقيقة كاملة.
ألجأ لكما اليوم، وأنتما الصديقتان اللتان يندر وجود مثلهما إلا فى الحواديت والأساطير. ألجأ لكما لتحميانى من خطوة قد أخطوها نحو حياة أعتقد أنها ستكون مزروعة بالألغام ومكدسة بالوحوش المفترسة. يا بنات أنا وقعت فى الحب. أنا الفتاة المخطوبة منذ طفولتها إلى رجل يكبرها بثلاثين عاما ويحتل فى بلدها مكانة هامة أسمح لنفسى بالوقوع فى حب رجل آخر.
خطيبى بالكاد أعرفه، ولكنى التزمت تجاه أمى وأبى ومشايخ القبائل أن أطيع رغبة أهلى التى وثقها هؤلاء المشايخ. الرجل الآخر الذى يبدو أننى وقعت فى حبه غريب عنى وعن تقاليدى وأعرافى. لا يمت لى بصلة دم أو غير الدم. هو أيضا يكبرنى ولكن بعشرة أعوام فقط. أعرف الآن أنه متزوج من امرأة تعرفانها وأعرفها وتعرفنى. أنجب منها طفلين. وحبها له ولطفليها مضرب الأمثال. نعم هو من تظنون. ويجب أن تعرفوا أن الرجل غير مسئول عما وقع لى.
أنا وقعت فى الحب من تلقاء نفسى. لم يدفعنى أحد أو يغوينى. هذا الرجل لم يفرش لى الطريق إليه سندسا كما يفعل غيره من الرجال. بالعكس كان أمينا. كنتما شاهدتين. كان يتفادى أن نوجد معا أو ننفرد ببعضنا. كثيرا وبصعوبة شديدة كان يذكرنى بقرب انتهاء فترة تجديد تدريبى. أكثر من مرة ذكرنى بأنه على استعداد لكتابة توصية لمن يهمه أمرى عندما أتهيأ لوظيفة فى المستقبل. دعانا ثلاثتنا لعشاء فى منزله. تذكران تلك الليلة؟ لا شك أنكما لاحظتما أنه لم يوجه خلال العشاء كلمة واحدة ناحيتى حتى نبهته زوجته فراح يهتم بى وفى عينيه بؤس شديد. كدت من فرط توترى أقفز نحوه وأحضنه وأهمس فى أذنه: توقف من فضلك عن القلق، إنى راحلة».