بقلم :جميل مطر
لا مبالغة متعمدة فى صياغة عنوان هذا المقال، فالواقع شاهد على دور باكستان فى الوصول بطالبان إلى تحقيق حلم استعادة الحكم فى كابول. لم يكن خافيا خلال العقود السابقة، وليس بخافٍ اليوم، هذا الدور بكثير من تفاصيله ومشكلاته. بداية الطالبان لم تكن فى أفغانستان. كانت البداية فى المدارس الدينية الباكستانية، هناك نضجوا وتشربوا فكرا متشددا اختلط بنشأة مشاعر قومية ترعرعت تحت وقع أقدام جنود الجيش السوفييتى الذى احتل بلادهم بدون مقاومة تذكر. هناك أيضا بدأت علاقتهم بجهاز الاستخبارات الباكستانية وهى العلاقة التى يعود لها الفضل أو الجانب الأكبر من الفضل فى صعودهم وتقف وراء معظم إنجازاتهم السياسية والعسكرية.
كان الاحتلال السوفييتى لأفغانستان الفرصة التى سرعان ما تلقفتها الولايات المتحدة للترتيب لإعداد وتشكيل جيش المجاهدين الذى سوف يعهد إليه مهمة تحرير أفغانستان. قامت الاستخبارات الباكستانية بتجنيد مجاهدين من الأفغان المقيمين فى باكستان ومنهم الطلاب فى المدارس الدينية، وضمت إليهم المتطوعين المبعوثين من دول عربية، إحدى هذه الدول تحملت بالكامل تقريبا تكاليف جميع هذه الاستعدادات. تولت المخابرات الباكستانية تدريب من توافق الغرب والشرق على تسميتهم بالمجاهدين على أنشطة تخريب المنشآت وتعطيل المركبات العسكرية واغتيال الجنود وتنظيم الوحدات المقاتلة وسلحتهم الولايات المتحدة بصواريخ ستينجر التى اشتهرت وقتها لما حققته من نجاح ضد القوات السوفييتية.
لم يختلف الدور الباكستانى كثيرا فى الجولة الراهنة رغم الاختلاف الشاسع فى طبيعة وقوة الأطراف المشتبكة فى الصراع الأفغانى. هذه المرة شهدنا حلول الولايات المتحدة محل الاتحاد السوفييتى كهدف من أهداف الحرب. شهدنا أيضا الصعود الثانى للطالبان كطرف أساسى فى هذه الحرب. كذلك شهدنا ضعف وفساد النخبة الحاكمة التى احتضنتها الولايات المتحدة، وهم الذين تهافتوا على الرحيل كلاجئين مع القوات الأمريكية وجيوش الحلفاء الآخرين. جسد هذه الحالة لنخبة السياسة والقيادة الأفغانية فرار رئيس الجمهورية وحاشيته مع صناديق ذهبه وأمواله من القصر الجمهورى قبل أن يطأ الطالبان بأقدامهم مداخل العاصمة. هكذا قدم الرجل، وأقصد رئيس الدولة، بما فعل مثالا ترددت أصداؤه فى عديد دول العالم، ومنها دول غربية وشرقية حليفة لأمريكا. صار المثال يرمز للمدى الذى انحدرت إليه أجهزة الدبلوماسية والدفاع فى الولايات المتحدة والنخب الحاكمة فى عديد دول أفريقيا والعالم النامى. هناك فى كابول فى تلك اللحظات الحاسمة لم يوجد فرد أو مؤسسة تستطيع أن تثبت أن عشرين عاما من احتلال أمريكى أثمرت شيئا واحدا جيدا باستثناء تعليم بعض لا بأس به من الفتيات. فى تلك اللحظات كان الرئيس يستعد للهرب وقادة الجيش الأفغانى يستعدون للاستسلام للطالبان الزاحفين على العاصمة بملابسهم الرثة وعمائمهم ولحاهم السوداء وبأسلحة أمريكية وفيرة تخلى عنها جنود وضباط الجيش الأفغانى المنسحب.
•••
مقابل الغضب فى دول الغرب على مظاهر الهزل الذى لازم المراحل الأولى للانسحاب الأمريكى كانت الفرحة بادية فى تصريحات وإعلام دول فى الشرق وبخاصة روسيا والصين وباكستان. يهمنى وأنا أكتب مقالى أن أتأمل قليلا فى واحدة من هذه الدول الثلاث وهى باكستان، فهى الدولة التى يدين لها الحكم الجديد فى كابول بالكثير. يتصور الكثيرون أن باكستان تنوى الحصول من الطالبان على مزايا ومنافع لم يتح لها أن تحصل عليها من قبل. أما أنا فأعتقد أن مسيرة العلاقات بين كابول وإسلام أباد لن تكون سهلة وميسرة. هذه العودة إلى الحكم بعد عشرين عاما لن تكن كسابقتها. رأينا صورا لشبان من جنود الطالبان يجوبون شوارع كابول ليسوا بأى حال قريبى الشبه والسلوك والحزم بجنود الطالبان الذين حاربوا القوات السوفييتية وحطموا التماثيل وحرموا على النساء الخروج من المنازل. الجنود الجدد عاشوا فى ظل الاحتلال الأمريكى سنوات سماح أو كما يسمونه «تسيب أمريكى» ترك أثرا عميقا فى الشبان الأفغان ومنهم هؤلاء الجنود، ترك مثلا كرها لأمريكا ليس ككره المجاهدين الذين عملوا تحت إمرة الأمريكيين قبل أربعين عاما وانتصروا على أسلحة وجنود السوفييت. هم الذين انتصروا على قوات الاتحاد السوفييتى أحد قطبى النظام الدولى. أنه الكره «المعتدل» أو الكره «المائع» الأقرب شبها إلى كره جنود وضباط الجيش الباكستانى للأمريكيين.
•••
لكن وراء ظنى بأن عائد التحالف الباكستانى الأفغانى بما فيه النصر الذى حققه هذا التحالف لن يكون مجزيا للطرفين، وراء هذا الظن الكثير من اعتبارات تستحق التأمل أهمها من وجهة نظرى الاعتبارات التالية، أولا: لم تنته فعليا الحرب الأهلية الأفغانية. فالخصومات القبلية والإثنية ما تزال مندلعة، فضلا عن أن الوجود الأمريكى لفترة غير قصيرة أدى كعادته إلى توسيع الفجوات الاجتماعية والعرقية داخل المجتمع الأفغانى. هذه الحرب الأهلية المتوقع استئناف معاركها قد تجد الدعم من أمريكا والمملكة المتحدة والهند. كما أنها سوف تفرز فى الغالب موجات متتالية من لاجئين أفغان تجاهد بدورها لعبور الحدود مع باكستان.
ثانيا: المرحلة القادمة فى مسيرة العلاقة الباكستانية الأفغانية سوف تكون معقدة وتتطلب توازنا سياسيا من نوع أقوى من التوازن الحالى فى النظام السياسى الباكستانى. أشير بشكل خاص إلى الخلافات المستترة أحيانا، وهى التى تنشب داخل الطبقة الحاكمة الباكستانية بين الجناح السياسى والجناح العسكرى. هنا، وفى قضية مستقبل الحكم فى كابول سوف يهيمن بالضرورة على عملية اتخاذ القرار السياسى فى إسلام أباد الجناح العسكرى الذى يسعى لإضعاف النفوذ الهندى فى مواقع عديدة فى أفغانستان، بينما قد يميل الجناح السياسى إلى تهدئة التوتر فى العلاقات مع الهند لدواعى التوازن الإقليمى والتطورات المتلاحقة فى جنوب شرقى آسيا. الواضح حتى الآن أن الجناح السياسى فى باكستان لا يزال أضعف من أن يؤثر بعمق فى قضايا الأمن القومى.
ثالثا: الصين لن تتسامح مع باكستان إذا لم تقم الأخيرة بالمنتظر منها وهو التأثير على الطالبان لتحقيق الاستقرار وبسرعة فى أفغانستان. كلاهما، الصين وروسيا، عاقدان العزم على التدخل السياسى الحازم فى حال فشل حكام كابول فى تهدئة التمرد فى مختلف أقاليم أفغانستان وكلاهما لن يغفر لباكستان أى تقاعس أو إهمال فى توجيه حكومة كابول نحو مراعاة مصالحهما.
رابعا: لن تتوقف الهند عن التدخل غير المعلن فى شئون أفغانستان. للهند مواقع أفغانية مستفيدة من التعامل مع الهند، فضلا عن أن للهند استثمارات كبيرة فى أفغانستان لن تتوقف عن حمايتها، وإن اضطرت إلى الضغط على باكستان فى مواقع أخرى مثل كشمير ومواقع تشهد توترات طائفية وعرقية.
خامسا: ليس جديدا عدم الرضا الباكستانى عن السياسة الأمريكية. باكستان لم تعد تخفى غضبها على السعى الحثيث لجذب الهند إلى تحالفات عسكرية وإقليمية تهيمن عليها أمريكا مثل حلف الـ«كواد» الذى أنشأته مؤخرا ليضم إلى جانبها أستراليا واليابان والهند، خارج الحلف الأوسع الذى يجمع مختلف دول جنوب شرق آسيا ويحمل مجددا اسم الهند إلى جانب الباسيفيكى. وربما كان اتجاه باكستان لتوثيق علاقاتها بالصين ليس أكثر من رد مناسب على جهود أمريكا المستمرة لتصعيد مسئوليات الهند الإقليمية والدولية على حساب مصالح باكستان.
سادسا: تبدو الصورة رهيبة إذا نحن تخيلنا ولو للحظة واحدة اجتماع أو صدام بين الطالبان وداعش والحرس الثورى الإيرانى والقاعدة وتنظيمات غير قليلة لم نتعرف عليها بعد وقد تكون نشأت فى أحضان المخابرات العسكرية الباكستانية أو مخابرات دولة غربية شاركت فى احتلال أفغانستان لعشرين عاما. اجتماعهم تحت قيادة واحدة هم ثقيل وتهديد للسلام فى كل آسيا وصداماتهم ببعضهم البعض أو بقوى إقليمية أخرى هم آخر وثقيل أيضا يهدد الاستقرار الذى تحلم به الصين، القطب الدولى الناشئ على مستوى العالم والمهيمن بوعى أو بدونه على مستوى القارة.
•••
أفكر كثيرا فى كلمات معدودة نطق بها رئيس سابق لجهاز المخابرات الباكستانى، ولا أستهين بها أو أقلل من قيمتها ومغزاها، قال الضابط الكبير «بمساعدة أمريكا هزمت المخابرات الباكستانية الاتحاد السوفيتى، وبمساعدة أمريكا هزمت أمريكا».