بقلم :جميل مطر
الأستاذ الزميل..
تحيات لن أصف زخمها وأشواق تعرف ولاشك غزارتها ومداها. أستاذى.. أعتذر عن استخدام النداء الذى لا تحبذه ولكننا مدربون على استعماله والتغاضى عن غيره عندما نخاطب كبارنا فى التعلم والتلقين والقيادة.. كلفتنى مشكورا تولى مسئولية تنظيم عقد لقاء «انترنيتى» نستأنف به حلقات النقاش المفتوح لقضايا تخص المرأة أساسا ونتلمس فى الوقت نفسه نواحى القلق والتوتر فى علاقتها بالرجل. أذكر أنك نبهتنى عند التحضير لهذا اللقاء أن نتوقع أن يتوجه اللقاء، شئنا أم أبينا، نحو التركيز على هذه العلاقة باعتبار أنها صارت وبخاصة فى زمن جائحة الكورونا اللعينة محورا من أهم محاور التقلبات الاجتماعية فى بلدنا وفى العالم، حتى كدت أتجاسر وأقول إنها تجاوزت فى الاهتمام والأهمية محور الصراع الطبقى.
كلفتنى، وسعدت بالتكليف، كلفتنى أن أسجل بقلمى وبصوتى تقريرا عن اللقاء. مع طلب، أو توجيه، صريح منك بأن أتوخى الحذر. ففى مثل هذه الموضوعات تكثر الأشواك وتنكشف الحساسيات وتتداخل القضايا. توقعت، والآن أتفق معك، أن المرأة فى المناقشة والتحليل سوف تتحول إلى أكثر من امرأة واحدة، أكثر من رؤية ورأى، أكثر من تجربة. طلبت منى يومها أن أتخيل جو النقاش وأستعد له بأسئلة وتكتيك حسب الأصول والقواعد المعمول بها فى الدبلوماسية والعمل الصحفى، وقد تدربنا عليها. أعرف مثلا أن أهم ما لدى المسئول ليس ما يقوله بل ما يخفيه، وهو فى الحقيقة ما نسعى لمعرفته. سوف يحاول على امتداد الحوار حماية ما يخفيه ضد محاولات السائل النفاذ والحصول على ما يريد. أعرف أيضا من الممارسة أن المرأة ليست طرفا طيعا فى أى حوار يحاول المحاور أو المحاورة بالذكاء الممكن اختراق مكنون أو مخزون تجاربها، وبخاصة ثروتها العاطفية. أنا امرأة يا أستاذى وأعرف شيئا عن هذه الثروة، أعرف جيدا أنها لن تكشفها لرجل غريب أو قريب، بسهولة أو طيب خاطر.
بدا اللقاء ساخنا. امرأة فى عمر متوسط وجمال فوق المتوسط وفتنة مبهرة افتتحت النقاش بغضب. قالت «أكره الرجل. كرهته منذ كنت جنينا فى بطن أمى. أمى وأبى تحابا قبل الزواج وعاشا قبل الحمل أعواما فى نعيم من الحب. عرف كيف يدللها فى بداية الحمل. تذكر أمى تلك الأيام وفى عيونها دموع لا تظهر إلا لقليلين. تعترف أنها لم تكن قبل الزواج تعرف كم أن الحب كبير.. كبير جدا.. كبير للغاية. عرفت عندما حملت بى. بعد أسابيع عرض عليها الطبيب أن يطلعها على نوع الجنين فى بطنها. وافقت منبهرة بتقدم العلم وبوقع المفاجأة عندما تعود إلى بيتها وتلقى بالخبر على مسامع زوجها الحبيب. ألقت بالخبر وليتها ما فعلت، ليتها ما أحبت، ليتها ما تزوجت، ليتها ما حملت. يوم ألقت بالخبر كان يوم انقلب زوجها. توقف التدليل والتعاطف والرعاية والمودة، بكلمة أخرى واحدة، توقف الحب من طرف واحد. صار البيت سجنا لكل من فيه. وأنا منهم. أنا ولدت منبوذة. حتى أمى التى حملتنى بحب كبير، كبير جدا استقبلتنى ببرود فى بيت بارد. كبرت وأنا أرى فى عينيها اللوم والعتاب يختلطان أحيانا بلفحات حب سرعان ما تختفى. نضجت فى بيت يخلو من نور الحب، كبرت وأنا أسأل فى هذه الظلمة، من المسئول؟ الرجل الذى ساءه أن يكون أبا لامرأة وتخونه زوجته فتحمل له مشروع امرأة، يعنى أمى مسئولة. أم أنا المسئولة منذ كنت جنينا ثم طفلة ثم مراهقة ثم امرأة ناضجة. أنا هدمت بيت حب، أنا خربت نعيما، أنا تحديت رجلا».
أستاذى، من حولى غضب كبير. ترددت فى أن أنقل لك حجم هذا الغضب ولكنى وعدتك أن أحسن النقل بصدق ودون تحيز، ولن أحنث بوعدى. تقدمت واحدة من الميكروفون الذى أحمله فى يدى، وأظن أنها كانت لتنتزعه من يدى لو لم نكن على الإنترنت. قالت: «أتعرفون أنى للأسف تمنيت فى وقت ردىء لو أنى خلقت رجلا. لن أناقش الخالق فيما خلق، ولكنى أناقش المخلوق فيما فعل ضد إرادة الخالق. لا أظن أن الخالق خلقنا ليعذبنا أو خلق الرجال ليهيمنوا أو يدوسوا علينا وعلى عواطفنا وحرياتنا من أجل إشباع بعض أو جل رغباتهم. بالتأكيد لم يخلقنا فى أجمل صورة بل الأجمل فى كل ما خلق لا لشىء إلا لإمتاع الرجل وخدمته. لسنا بالتأكيد بضاعة بوظائف وقتية يتوقف الاهتمام بها فور تأديتها الوظائف التى يعتقد الرجل أننا خلقنا من أجلها».
•••
فى حياء غير مألوف ونعومة طارئة استأذن رجل من الحضور فى أن يتكلم. سوف تظهر لك على الشاشة صورته، بدا لنا أنيقا فى الهندام كما فى السلوك. قال «سمعت وتألمت. النساء رغم كل ما حققن من مكاسب مازلن بعيدات جدا عن فهم الرجال. درسن المرأة دراسة وافية ولم يدرسن الرجال، نادرة هى الكتب أو البحوث أو المراكز المتخصصة فى الرجل. أقمنا مجالس قومية للمرأة فى كل الدول وفى كل الأقاليم وفى الأرياف والبوادى، ولم نقم مركزا واحدا للرجل؟ هل فكرنا رجالا ونساء فى ضرورة الإسراع فى تأهيل الرجل ليناسب العصر الجديد. أشارككن الرأى أن الرجل مازال يعيش فى عصور الظلام. يرفض ما استجد من تطورات على صعيد تعليم المرأة وتشغيلها وتمكينها، يرفض وإن خضع فأيد بغير قلب. أكثر الرجال يا صديقاتى يعيشون حالة مظلومية. الوظائف انتزعتنها والرأى احتكرتنه ومواقع فى السلطة ومراكز القوة احتلت. الرجال مظلومون. المجتمعات تغيرت.
سمعت امرأة فى هذه الجلسة تقول لا يوجد رجل بين الرجال قادر على أن يصوننى. فى الحقيقة لم أفهم تماما معنى الكلمة إنما أستطيع أن أستخدم بدلا منها كلمة يحمينى. أيا كانت الكلمة أسأل صاحبة هذا الإعلان عن رجل يحمى أو يصون، ألم تطالب المرأة بحريتها واستقلال إرادتها فى حملة عالمية غير مسبوقة لتحصل على حريتها، ولتمتلك بشكل كلى إرادتها وأساليب تمكينها؟ فعلت ذلك وكانت النتيجة كما قالت صباح اليوم مشاركة أخرى، وضعا اجتماعيا ينطبق عليه التعبير الشهير، سداح مداح. الرجل منزوع الصلاحية والمرأة غير مصانة فى مجتمع متغير.
•••
أستاذى، لخصت لك فى السطور السابقة بعض ما دار فى جلسة افتتاح لقائنا. عرضت التوقف لداعى الراحة، وللحق كان التوقف لدواعى تهدئة الأجواء وترطيبها.