بقلم :جميل مطر
غابت سنوات وعادت. عملنا معا لفترة غير قصيرة، أنتجت فى عملى خلالها أكثر وأحسن مما أنتجت فى فترات مماثلة سبقت وجودها معى أو جاءت بعدها. عرفتها خبيرة فى الناس بعيون فاحصة وقلب نابض بالرحمة والحب. باحثة قديرة تعرف عن النساء وطباعهن قدر ما أعرف وتعرف عن الرجال أكثر مما أعرف أو يعرف غيرى. كانت تزعم أن علم الاجتماع فقد بعض هويته حين سخر جل وقته والمنح المتاحة لفهم كل صغيرة أو كبيرة تتعلق بالمرأة، وعندما أشبع نهمه لم يحاول فعل الشىء نفسه مع الرجل.لا نزال قاصرين عن فهم الرجل. لا نزال نناقش ونختلف حول آدم فى الجنة وما فعل هناك مع حواء ونناقش، ولا نختلف، حول ما فعلته حواء بآدم وبنفسها وبنا جميعا.
•••
اتصلت ذات صباح باكر تسألنى إن كنت أحن إلى فنجان قهوة معها فى مكانها الذى فضلته على غيره كلما ضاقت بها سبل حل مشكلة غير عادية. مكانها المفضل مقهى فى فندق وسط النيل ومائدة بمقعدين على نقطة عند الطرف الأقصى للمقهى تتوقف عندها أى حاجة لنادل أو زبون متطفل. بعدها مياه النيل. رحبت بى بوجه خلته على غير العادة عابسا. لم أسأل. جاءت القهوة فصبت منها فى فنجانى حتى أشرت عليها بالتوقف. اعتذرت وعادت إلى خصلة من شعرها تلفها على أصبعها ثم تطلقها ليداعبها نسيم النهر علامة حيرتها أو ارتباكها. احترمت صمتها بصمت من جانبى. شعرت بهاتفى يرتعش فى جيبى طالبا استجابة منى. كتمت الرعشة ففى هذا الصمت، صمت الطبيعة وصمتنا، يحدث أحيانا أن يصبح للرعشة صوت.
صدق حدسى. وصلتها الرعشة فانتبهت. جددت قهوة فنجانى وهى تعتذر. قالت: «أعتذر عن حال أعرف أنها لا تسرك. وأعتذر عن دعوتك لتشاركنى فى البحث عن حل مناسب لقضية حساسة أخشى أن تتفاقم. ليست المرة الأولى التى ألجأ فيها لك ولن تكون الأخيرة. كعادتى أصبر وأحاول حل المشكلات وحدى، وإن تعقدت المشكلة أو فشلت فى حلها أحملها واذهب بها إليك أينما كنت. تذكر، وكنت وقتها فى مهمة بمدريد، أنى ذهبت إليك أحمل طفلى الرضيع ومعى زوجى نعرض عليك تفاصيل أزمة أوشكت على هدم ما بنينا وكنت أنت نفسك أحد أهم البنائين. هذه المرة جئت بك لنحاول معا حل مشكلة تزداد تعقيدا مع مرور يوم جديد عليها، مشكلة لا تخصنى مباشرة. تخص رفيقة الروح والقلب.
«تذكر يوم تعارفنا. تذكر أنه كانت برفقتى صديقة قدمتكما لبعضكما باعتباركما أهم وأقرب الأصدقاء وأقربهم إلى قلبى وعقلى. طبعا لن أنكر إن ما قلته يومها لا يزال ينطبق عليكما. أنتما فعلا الأهم والأقرب. هى وأنا نشأنا فى بناية واحدة وذهبنا إلى الحضانة نفسها والمدرسة ذاتها وتخرجنا من نفس الجامعة. افترقنا لتحب وتتزوج. أحبت بكل جوارحها. أحبت كما لم يحب إنسان شخصا آخر. تزوجا بعد فترة خطوبة قصيرة وأنجبا طفلة ولدت جميلة وكبرت رائعة وفاتنة. لم أعرف صديقتى على هذه الدرجة من السعادة مثلما عرفتها فى تلك الأيام. صدقنى إن قلت أن هذه السعادة كانت بالنسبة لى التعويض المناسب لافتقادى صاحبتى.
«تعرف أننى سافرت بعيدا. غبت فترة طويلة. لم تنقطع الرسائل المتبادلة بيننا. الموضوع الثابت فى الرسائل كانت أحوال وجمال ابنتها وذكائها وسجلها الراقى فى مختلف مراحل التعليم. المتجدد بيننا، صديقتى وأنا، كان زواجها. لسوء حظها وحظ ابنتها مات الزوج فى حادث وابنته لم تتجاوز عامين. كانت الصدمة مريعة. فالزواج كان عن حب قوى. انتهى الزواج واستمر الحب ونضجت الثمرة. نصحتها بالزواج، بعد سنوات قليلة من العيش بدون رجل فى البيت، زوج لها وأب لابنتها. أعرف تعليقك. تبقى المرأة من النوع المحافظ بدرجة ما رهينة تقاليد تخلفت من فرط رمزيتها وطول قرون جمودها. على كل حال كانت صديقتى أقرب منى إلى فكرك حول هذا الموضوع. لعبت صديقتى كل الأدوار، دور الأم، دور الطرف العائل، دور الأب، دور المدرس الخاص، دور المرافق فى المشاوير للملاعب الرياضية والطبيب المعالج والحفلات الساهرة، دور المستمع باهتمام، دور المبشر والداعية والمربى، كله فى أسلوب تناسقت أدواته بحكم الزمن وتبدلت صياغاته بحكم التطور وتشبكت مفاهيمه بحكم نضج الوعى والجسد وازهرت مضامينه بحكم ارتقاء عواطف الابنة وغلبة رهفها.
•••
«عدت من الخارج. صرت تقريبا طرفا ثالثا فى بيتهما. بيت كله حب. الابنة تخرجت قبل عام من عودتى. تقول أمها أنها رجعت من حفل التخرج وابنتها تحمل فى يد شهادة تفوقها وفى اليد الأخرى رجل متوسط العمر وصفته بأنه يمكن أن يصبح حبيبها والمرشح ليكون رجل المستقبل إن هو أحسن التصرف ونال ثقتها وحبها. ثم تعرفت إلى زوج صديقتى. أظن أننى لم أقابل فى حياتى، وهى مليئة كما تعلم بالرجال المتميزين صورة وخلقا، رجلا حاز قبولى ثم إعجابى منذ اللحظات الأولى مثلما حصل لهذا الرجل، زوج صديقتى. لم أنم ليلتها إلا بعد أن كلت المديح تلو الإعجاب تلو السعادة للرجل بعد أن استأذن ليقضى أمرا ضروريا على الهاتف وبقينا لساعة أو أطول، صديقتى وانا وابنتها وحدنا، نتحدث. الأم أضافت من معاشرتها الرجل أطنانا من عبارات الحب ومشاعره. الابنة صارحتنى، أثناء لحظة غابت فيها الأم فى غرفتها، أنها أخيرا عرفت معنى أن تعثر فتاة فى عمرها على أب. قالت أيضا كيف أنها تشكر أمها طول الوقت على انتظارها الطويل وتفرغها لها بينما مثل هذا الرجل يدق بابها لسنوات عديدة طالبا الاقتران بها. وقالت أنها سمعت الكثير عن الحب فوق ما يبدو أنه بدايات له فى حياتها الخاصة، ولكنها لم تعرف أنه ممتع ومفيد ومنعش ومغير للحال إلا عندما راقبت تصرفات أمها منذ أن أعلنت عن وجود هذا الرجل فى حياتها ودعته ليتعرف على ابنتها. وقالت أيضا أنها تأكدت فى لحظة التعارف وما سمعته من أمها أن هذا الرجل يستطيع وبكل الرضا من جانبها أن يمارس معها دور الأب. دور قالت أنها لم تسمح لأحد أن يمارسه معها منذ أن وعت أنها ستعيش طفلة بدون أب. هى تعرف عن أن للرجال أدوارا شتى اقتربت منها جميعا مرات عن بعد ومرات عن قرب إلا دور الأب. وفى النهاية، وقبل انضمام أمها إلينا خفضت صوتها وقالت كم ظالم يعيش بيننا ولا يعلم أى ظلم ارتكبه بدون وعى. أنا ظلمت أمى حين حرمتها من هذا الرجل النادر خلقا وشكلا ورقة وعطفا.
•••
«عدت أجد السلوى ليالىَ عديدة فى الأسبوع فى صحبة صديقة عمرى وبخاصة بعد أن أضافت إلى باقتنا ابنة رائعة ورجلا شيق الحديث وواسع التجربة. ارتحت للصحبة فى شكلها وحجمها الجديد. عادت أيامى بهيجة وممتعة وعائلية المزاج والمعاشرة. كنا نسهر نلعب ألعاب الكومبيوتر أو الورق وأحيانا الشطرنج أو النرد، ومعنا أحيانا صديق الابنة وكان حبيبها قبل شهور، وهى الصفة التى استخدمتها صغيرتنا عندما قدمته لأمها أول مرة. كانت لنا جلسات سياسية ندعو إليها من يفهم فى السياسة أو من يساعدنا على التمييز بين الحقيقى والزائف فيما نسمع أو نقرأ. ومعنا صديق الابنة يأتى أحيانا كانت متقاربة قبل أن تتباعد شيئا فشيئا. بعد شهور وربما سنة أو أكثر بدأ ارتياحى لجلستنا يتراجع. فكرت مليا أن أدعوك للانضمام إلينا فتجدد فينا حماستنا وتعيد إلينا أرواحا كانت وثابة أو هكذا كنت أنوى حفزك للانضمام. أعرف الآن أننى شئت أن تكون معى تخفف عنى قلقا وإن صحت ظنونى تدقق فى سبب ارتيابى.
•••
«لاحظت يا صديقى تغيرا فى الابنة الرقيقة الناعمة. صارت مع الأيام أكثر ورعا وتدينا. لاحظت عليها أيضا شرودا متواترا ومتزايدا. وبعد أن كانت أكثرنا حيوية انخفض نشاطها. كانت أسرعنا فى الإجابة عن لغز أو فى حل معضلة، فصارت الأبطأ والأكثر ترددا. لم تكن فى حاجة لملهم أو وحى لتبدع وتسبق، صارت تنظر إلى زوج أمها تستلهم الحل أو الاجابة من قسمات وتفاعيل وجهه. مرارا وتكرارا لمحتها ساهمة لثوان وعيناها معلقتان بفمه تريده أن ينطق، تريد صوته، تريد حركة منه. ليلة بعد ليلة أراقب شيئا ما يتطور أمامى وأنا عاجزة عن لم شمل كل ما يصدر عنها من كلمات وتصرفات فى خلاصة واحدة. بدأت أحس بلهيب يسبق خطرا زاحفا.
•••
«نقلت التركيز من الابنة العزيزة إلى الزوج الناعم. انطباعى الأول أن لا تغيير بالمرة فى صوته أو فى تصرفاته أو كلماته التى كان دائما يختارها بعناية. خفت، أقولها بصدق ولكن بحذر، خفت أن يكون البيت الذى كان مفعما بالحب فى كل ركن من أركانه، يكاد يلفظ هذا الحب، أو فلنكن صرحاء مع أنفسنا، يكاد حب آخر أو حب من نوع آخر ينازعه أو جانبا منه ليزيحه ويحل محله. ظل الرجل يذهلنى بتهذيبه أو لعله بحبه القديم والثابت والعميق غافل عن التحول الهائل الذى تمر فيه الابنة الرائعة التى تبناها عن صدق وحب أبوى. الأم بروحها المعلقة بابنتها التى هى سبب وجودها فى هذه الدنيا، وفى الوقت نفسه معلقة بزوجها، هدية السماء لها بعد طول حرمان وتضحية، هذه الأم عزلتها ملائكة الرحمة عن تفاصيل التحول الحادث فى قلب ابنتها وفى مجمل عواطفها وشجرة مشاعرها.
***
«صديقى، أستغيث بك، وما أكثر ما استغثت بك. أكرر ما سبق ورددت مرارا. أحب هذه العائلة حبا جما وأنت تعلم تاريخ هذا الحب ونوعه علم يقين. ترانى الآن وأنا وسط دوامة من الخوف أن أخطئ فى كلمة أو أسىء تصرف أو أفقد زمام التحكم فى معالم وجهى حين أخاطب أحدا منهم. أخاف أتغيب يوما فيفوتنى عمقا جديدا لوضع يتدهور. أخاف أضعف فأتحمل مسئولية انفراط عائلة أحبها وأحب كل فرد فيها على حدة. أخاف أقوى فأمد يدى لأنتشل فردا أو آخر قبل السقوط فأعجل بالدمار. أخاف أتعامل مع أنواع حب لا أعرفها. ساعدنى فأنت أدرى منى بوعورة هذه المسالك الحساسة».