بقلم :جميل مطر
استلقت الطفلة فى سكون مريح وتوقع مثير، أحدهما يتغلب مرة ثم ينسحب ليترك الفرصة للآخر ليتغلب بدوره. أما السكون فهو الحالة المتكررة كل ليلة بعد عشاء هنىء وكوب حليب دافئ. تسبق السكون وتأتى بعد العشاء رحلة فى الحضن والتعلق برقبة الأب أو الأم أيهما الأسعد حظا فى هذه الليلة، من منهما، وفى الغالب هو الأب المتقدم فى العمر الذى سوف يحمل فى حضنه الصغيرة إلى فراشها بعد تغيير ملابسها. يضعها على فراشها برفق لترقد بحنان. هنا وفى هذه اللحظة يبدأ التوقع المثير، فبعد قليل سوف تنصت باهتمام مختلط بالترقب إلى سرد لحكاية من حكايات ما قبل النوم، سرد لا يقطعه نداء أو واجب آخر.
•••
الليلة غاب الأب فى عمله. أضاع فرصة تنفيذ مهمة لعلها الأحب والأقرب إلى قلبه. الليلة لن يحمل أميرة إلى فراشها ولن يقص عليها واحدة من حكاياتها المفضلة. أمها ليست بارعة كراوية ولكنها خير من يقوم بتنفيذ المهمة فى غيابه والطفلة على كل حال لن تقبل ببديل لها إن غاب الأب. استعدت الأم التى لا يسيئها أكثر من أن تفشل فى مهمة تخص ابنتها التى طال انتظار قدومها لتملأ فى الأسرة الصغيرة فراغا كان يتعمق وكاد يتوحش قبل أن تحضر. انحنت تقبلها. أغلقت الستائر المعلقة على شباك الغرفة لتحمى الطفلة من غزو الضوء الزاعق عند الصباح. ثم وفى طريقها إلى المكان المخصص بحكم العادة للراوى مرت على مكتبة الغرفة المكدسة بكتيبات عديدة بألوان فرحة اختارت منها واحدا.
•••
فتحت الكتاب على صفحة تزينها صورة لوحة زيتية جلس فى واجهتها السلطان ومن حوله وتحت أقدامه وزراؤه وكبار عماله وضباط من الأجانب لحراسته. وفى جانب من اللوحة شاب مليح الطلعة طويل القامة، وهناك فى أعلى الصورة صف من المشربيات يعلم القاصى والدانى أن وراءه تجلس نساء القصر، تجلس بعض زوجات السلطان وبناته ومن يسمح لهن من الوصيفات. كلهن يسترقن النظر إلى رجال السلطان ويتبادلن فيما بينهن الغمزات والتلميحات وأحيانا تصريحات لا تخلو من إشادة بإعجاب بشاب أو آخر من الضيوف أو حراس وضباط القصر وشعرائه وحكائيه.
•••
بدأت الأم تقرأ، أو تترجم بلغة مبسطة تناسب وعى ابنتها، حكاية أميرة بنت السلطان التى من مشربيتها استحسنت شكل ووجاهة ورشاقة شاب لم تقع عيناها عليه بين الرجال من قبل وهى الحريصة على حضور كل استقبالات والدها السلطان، وهى الحريصة أيضا على مناقشة أبيها عند أول فرصة تلتقيه فى أمور نوقشت وقرارات سلطانية اتخذت تحت سمعها وبصرها. كان الأب معجبا بذكائها وهو المحروم من ولى عهد يحمل الرسالة من بعده؛ يتوسع بالحدود ويحميها، قديمها وجديدها، ويجدد الثروة، ويراقب نظافة الأنهار والآبار والترع، ويضمن الأمن فى الأسواق، ويشجع السكان على ترك أبواب بيوتهم غير محكمة الإغلاق فالأمن فى البلاد مستتب. وبينما ابنة السلطان غارقة فى انبهارها بالشاب الغريب أشارت لوصيفتها بأن تهب إليها عند مشربيتها. أتت الوصيفة مهرولة فأجلستها الأميرة إلى جانبها وألمحت لها بالنظر فى اتجاه الشاب الجميل. وعندما تأكدت أن الوصيفة لم تخلط بينه وبين غيره من الشبان، طلبت منها بإشارة من عينها أن تحصل لها على كل أخباره وشكل حياته ونسبه وتعليمه ورزقه. وتعود لها فى الليل، أوله أو آخره لا يهم، بالإجابات. لن يغمض لها جفن حتى تعود وصيفتها بالأخبار.
•••
جاء فى الأخبار التى رجعت بها الوصيفة أن الشاب من عائلة طيبة هاجرت إلى البلاد من أرض الأكراد. نبغ فى الحساب وقيادة الناس ونظم الشعر وقراءته. سمع به السلطان فدعاه ليحضر مجلسه بانتظام. جاء فى الأخبار أيضا أن الشاب الوسيم النابغة راح ذات يوم للنزهة فى الغابة الجميلة القريبة من بوابة الفتح التى تدخل منها وتخرج جيوش السلطان الظافرة. هناك لمح بين نساء يقضين الصباح فى نزهة، افترشن الأرض ورحن يمرحن ويلعبن، لمح امرأة على جمال أخاذ وجسد ممشوق وضحكاتها عذبة وصوتها جذاب. كانت تشدو ظنا منها أن هذا الجانب من الغابة مخصص لفتيات القصر ومؤمن بالحرس السرى فلن يقربه رجل من العامة. وصيفتنا سمعت من مشرفة فى بيت الشاب أنه عاد يومها إلى البيت منبهرا ومشدودا إلى الخيال. لم يعرف من كانت تلك المرأة التى سلبت عقله وكادت تخطف الرشد أيضا. راح يزور الغابة صباح كل يوم ما عدا الأيام التى يأتى إليه من يحمل أمر السلطان ليحضر مجلسه. هنا فى المجلس لم يخطر على باله أن المرأة التى يبحث عنها تراقب حركاته وسكناته من وراء مشربية تطل على القاعة. سكتت الوصيفة برهة ثم عادت تقول فى خجل وخوف من غضب أميرتها، «سيدتى، عرفت من مصادرى فى بيته أن الشاب لا ينام أكثر الليل فأميرة الغابة اختطفت ليله كما فعلت بنهاره. تجاسرت فطلبت مقابلته فقابلنى وقد غلبه الفضول. استأذنت أن يقسم على أن يحافظ على ما أقول سرا يكتمه فى صدره. أما السر، واعذرينى يا معبودتى، فهو أن يأتى إلى بيتى الواقع على أطراف المدينة مساء الخميس. هناك تتقابلان ولن يكون فى البيت غيرى».
•••
قضت الأميرة الليلة تفكر. الحب يملأ قلبها حتى قبل أن يتلاقيا. أن تذهب أميرة إلى بيت وصيفتها ليس بالأمر الغريب أو المحظور ولكن أن تقابل فى البيت رجلا بدون إذن السلطان فأمر لا يغتفر لكل الأطراف؛ لبنت السلطان، وللشاب الذى اختاره السلطان أنيسا وفى القريب مستشارا ووزيرا، وللوصيفة التى خانت الأمانة وعينت نفسها ملاكا ورسولا لعلاقة حب هى فى عرفها البسيط الطاهر مقدسة. فكرت طويلا وبقلب يتوجع اتخذت قرارا بعدم الذهاب إلى بيت الوصيفة.
•••
توقفت الأم عن القراءة لتسأل ابنتها إن كانت تفضل النوم عن الاستماع إلى قصة الأميرة حُسن شاه، أجابتها الطفلة «بل استمرى يا أماه من فضلك إلا اذا كان النعاس غلب اليوم حبك للسهر». بصوت متهدج لاحظته الطفلة ولم تعلق قالت الأم «يا ابنتى لا تتوسلى، فما تطلبين هو أمر أنفذه وليس فضلا أقدمه». ثم خفضت صوتها متحدثة إلى نفسها «أراك يا طفلتى معجبة بالحكاية التى اقرأها لك ومتعاطفة مع أبطالها وأرانى منفعلة بما اقرأ فأنا أحد هؤلاء وكأنك كنت تعرفين».
•••
استمرت متمسكة بصوتها الهامس وأصابعها تقلب الصفحة فتظهر لوحة يعرفها كل قراء الحكايات الموروثة فى كل ثقافات العالم. فى هذه اللوحة تظهر أميرتنا فى حديقة قصرها تتمشى على أطراف البحيرة الاصطناعية وفى يدها زهرة ألقى بها إليها الشاب الوسيم والجميل الواقف فوق حصانه خارج الأسوار. تمنت لو استطاعت الاستجابة إلى نداء قلبها فقفزت فى الهواء وطارت من فوق السور لتهبط فى أحضان حبيبها فوق الحصان. تدخل عقلها الرشيد جدا ليصور لها أباها السلطان مجروحا فى كبريائه وخصومه بالشماتة مبتهجين وحدود بلاده ساخنة بالتوتر، فالعرش أضعف إذا فعلت الأميرة ما زينه لها قلبها. سقطت الزهرة من يدها فانحنت تلتقطها. احتضنتها وعيناها على حبيبها واقفا فوق الحصان ثم قبلتها مرتين قبل أن تدسها بين طيات ثوبها وتلتف عائدة إلى القصر. هناك حيث تجرى الاستعدادات على قدم وساق لعقد قران الأميرة على سلطان الإمارة الحليفة والبعيدة التى جددت بتحالفها وثقتها قوة عرش أبيها ومملكته العتيدة.
•••
رفعت الطفلة رأسها ومدت يدها لتأخذ الكتاب من يد أمها لتكتشف أن الكتاب كان فى وضع مقلوب. عرفت أن أمها، حبيبتها، لم تكن تقرأ لها وإنما تحكى من قلبها. نهضت من الفراش وراحت تحاول احتضانها والأم تشيح بوجهها بعيدا عن ابنتها التى انتبهت فسألت فى حنان «تبكين يا أمى... أتبكين يا أميرتى»...؟