توقيت القاهرة المحلي 09:00:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

النموذج الأمريكى فى مهب الريح

  مصر اليوم -

النموذج الأمريكى فى مهب الريح

بقلم :جميل مطر

حاولت ولم أفلح. حاولت مع نفسى أولا التقليل من أهمية العودة الطالبانية إلى السلطة فى كابول. الطالبان كانوا دائما هناك. خرجوا فى عام 2001 من مقار السلطة فى كابول وفى عواصم محلية أخرى ولكنهم ظلوا هناك فى الجبال والقرى. حرصوا على ألا ينساهم الناس فراحوا يبعثون بانتحارييهم يفجرون أنفسهم فى المدن وأمام مؤسسات الدولة ومرات كثيرة فى حضور القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو. تعايش الأمريكان والطالبان لعشرين عاما فى بلد تعادل مساحته مساحة ولاية تكساس. لم يفقد الأمريكان ولا الطالبان الأمل فى أن يوما سوف يأتى يتخلص الواحد منهما من الآخر. على ناحية تقف فى بعض المدن الأفغانية وعلى أطرافها دولة عظمى وحلف جرار بإمكانات هائلة وعلى الناحية الأخرى يكمن فى الشوارع الخلفية للمدن وفى وديان الجبال ومسالكها الوعرة ستون ألفا من المقاتلين يشكلون بؤرة الطالبان. تعايشوا، يتقاتلون حينا ويتفاوضون أحيانا كثيرة. تصورت أنه فى ظروف عادية كظروف العشرين عاما من الاحتلال والمقاومة الانتحارية والتفاوض المتقطع يمكن أن يستمر التعايش وقد يصبح وضعا قائما لمدة يمكن أن تطول طالما شعر الأمريكيون أنهم مستفيدون استراتيجيا من وجودهم قريبين من وسط آسيا وعلى حدود إيران والصين المنافسين الأكبر للنفوذ الأمريكى فى الخارج، وطالما كانوا متأكدين من أن إصلاحاتهم الاجتماعية سوف تثمر فى النهاية جيلا مختلفا، وطالما استمرت جذوة القتال والتبشير لدى الطالبان مشتعلة والحدود مع باكستان مفتوحة.
•••
أسأت التقدير. لم أكن غافلا عن حقيقة أن أمريكا، الإمبراطورية بكل معانى هذه الكلمة، دخلت طريق الانحدار. ولكن يبدو أننى لم أتبحر بما فيه الكفاية فى دراسة آجال الإمبرطوريات التاريخية والولايات المتحدة واحدة منها بامتياز. نعم لم أتبحر فى الآجال ولم أدقق فى الأسباب، أسباب الانحدار والمقارنة بين ظروفه فى كل حالة على حدة. لم يشبعنى الرد الجاهز والقائل بأن أفغانستان حالة استثنائية. حاول الإنجليز فى عز وعظمة إمبراطوريتهم ولم تكن اكتسبت بعد صفة العجوز، حاولوا ثلاث مرات خلال القرن التاسع عشر فرض الاحتلال البريطانى على الشعب الأفغانى وفشلوا. لم يشبعنى فى الوقت نفسه النقل التاريخى غير الدقيق للصعوبات التى واجهتها حملة الإسكندر المقدونى. تتميز أفغانستان جغرافيا وحضاريا، فهى تقع فى وسط آسيا ويتعامل معها المؤرخون والجغرافيون كدولة تقع جنوب وسط آسيا وليست جزءا منه. وهى بالتأكيد ليست جزءا من إقليم جنوب آسيا، وإنما حسب كتاباتهم دولة تقع شمال إقليم جنوب آسيا، الإقليم الذى تقع فيه الهند وباكستان. جديرة بالاهتمام حقيقة أن وجود إيران الثقافى والسياسى فى موقعها الراهن وضع حدا يفصل قطعيا أفغانستان عن إقليم الشرق الأوسط. خلاصة القول يظهر واضحا أن أفغانستان كيان لا ينتمى لإقليم آسيوى بعينه ويتعامل أهله بالشك فى نوايا جميع جيرانه المنتمين حسا وواقعا لإقليم أو آخر.
•••
تعددت خلال الأيام القليلة الماضية التوقعات عن مستقبل أفغانستان بعد خروج الأمريكيين. أميل إلى التبنى الحذر لعدد منها. أميل مثلا إلى الرأى الرافض لاحتمال أن يتمسك الطالبان بتطرفهم وجمود المفاهيم، فالوجود الأمريكى غرس بذرة تحولات اجتماعية ووجود الصين فى صيغته الجديدة كقوة عظمى على الحدود سوف تؤثر بحكم الجوار «غير العادى» فى ميول الشعب الأفغانى وتدفعه فى اتجاه التغيير. ثم إن وجود إيران على حدود أخرى لن يعنى بالضرورة أن حركة طالبان يمكن أن تنضم للتوجهات الثورية الإيرانية فتنشئ مع طهران حلفا أو جبهة معادية لأمريكا فى الشرق الأوسط. ما زلت أعتقد أن طالبان ليست مستعدة للعب دور تخريبى لمصالح أمريكا أو غيرها فى الشرق الأوسط فضلا عن ثقتى فى أن لا مصلحة أو علاقات تاريخية أو حتى حضارية وثقافية لأفغانستان فى إقليم الشرق الأوسط.
أضيف أيضا أننى لا أتصور قيادة أفغانية، أيا كانت توجهاتها العقيدية، يمكن أن تفكر الآن أو فى الأجل المنظور فى حشد أفكار وجماعات تثير مشكلات فى مقاطعة سنكيانج الصينية؛ حيث أغلبية السكان من الإيغور المسلمين. لا أظن أنه بين أهداف الطالبان الدخول فى مواجهة مع قطب اقتصادى وسياسى أعظم مثل الصين بينما لم تكتمل للحركة شرعيتها الحاكمة، وهى الشرعية التى يمكن أن تكتمل باعتراف الصين بالحركة عنصرا مسئولا وعامل استقرار فى منطقة حساسة جدا للصين. وفى كل الأحوال أتصور أن الصين لن تمنح الطالبان هذا الفضل الكبير إلا مقابل التزامات وتعهدات أفغانية أستطيع تخيل فحواها ونقاط ارتكازها.
•••
لا يثير قلقى سقوط كابول وصعود طالبان. دوافع القلق عندى مختلفة. قلت وأكرر أن استعادة طالبان لن تغير شيئا فى خريطة الشرق الأوسط ولا فى شرق آسيا ولا فى وسط آسيا حيث لا تزال روسيا، الشر الأعظم حسب الطالبان، تهيمن على بلدانه. وفى اعتقادى وحسب معلوماتى تسعى إلى عقد تفاهم تاريخى بين موسكو وكابول يرطب الاحتقان ويزيل المخاوف. قلقى ناتج عن عواقب الفشل الأمريكى. أمريكا كررت الفشل بل صار من المتوقع فى عالم العلاقات الدولية عند الاقتراب من أزمة أو مشكلة أن تفشل أمريكا. حدث مرارا أن توقع الخبراء والقادة السياسيون هذا الفشل إذا تدخلت دبلوماسيا أو عسكريا. سيان. فشلت أمريكا فى مفاوضات الدوحة، لعل مبعوثيها ضحوا بحكومة كابول من أجل ضمان خروج آمن من كابول. لم تثمر المفاوضات لأمريكا ما أرادت أو تمنت. أشارك بعض الكتاب الأمريكيين والغربيين عموما الذين أثنوا على قرار بايدن الانسحاب، فالتكلفة المالية والسياسية للوجود الأمريكى أصبحت مصدر حرج شديد للطبقة السياسية الأمريكية وفيها الديموقراطى والجمهورى. أحسن بايدن بإصدار قرار الخروج وفشلت المؤسسات الأمريكية فى تنفيذ القرار. القرار ناجح وله ما يبرره أما التنفيذ ففاشل وليس هناك ما يبرره إلا واقع الانحدار الأمريكى بصفة عامة. تنفيذ الخروج من فيتنام كان فاشلا وتنفيذ العقوبات على دول كثيرة فاشل والسياسات تجاه الشرق الأوسط وتجاه أوروبا أثمرت فشلا فى ذيل فشل. قرارات جيدة صدرت فى شأن الدفاع عن الديموقراطية فشلت عن تنفيذها. أمريكا نفسها تئن تحت فشل معالجة المسألة العنصرية وتحت القلق على مصير الديموقراطية فى أمريكا نفسها.
منظر الخروج من كابول وتخبط تصريحات المسئولين الأمريكيين فى الآونة الأخيرة وسقوط أفغانستان فى أيدى الطالبان بدون طلقة واحدة من جيش أفغانى تكلف تنظيمه وتدريبه أموالا طائلة. كلها وغيرها لا يحصى مثل أوضاع الكوفيد ــ 19 يعنى أن انحدار أمريكا تجاوز الممكن واقترب من خط الكارثة.
استيقظت عشرات الدول على منظر سقوط التجربة الأمريكية فى كابول ومعه الفشل المدوى للنموذج الأمريكى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النموذج الأمريكى فى مهب الريح النموذج الأمريكى فى مهب الريح



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon