بقلم : جميل مطر
غريب أمر الكتابة هذه الأيام فى موضوع الانتقال من نظام عالمى إلى نظام عالمى آخر. ففى كل مرة حاولت الاقتراب من الكتابة فيه قابلتنى ضرورة أن أحصن نفسى وما أنوى كتابته بعدد من الملاحظات، سمها تحذيرات أو احتياطات أو تحفظات. لتوضيح ما أقول أستأذن فى طرح تدقيق فى العنوان المتصدر لهذه الصفحة. آمل أيضًا فى أن يمتد الإذن فيسمح لى بنشر تمهيد مرغوب.
يتعلق التدقيق فى العنوان بمبالغة غير مقصودة فى صياغته. جاء فى العنوان أن «كلهم يستعدون» قبل أن أكتشف أنه قد يترك الانطباع لدى القارئ بأننى أقصد التعميم بينما الواقع الدولى المعاش لا يشجع على هذا الرأى أو التصور. الواقع المعاش هو أن ليس كل الدول الأعضاء فى النظام الدولى الراهن يستعدون لتغيير فيه وربما لعضوية فى نظام دولى جديد، ناهيك عن حقيقة أن دولًا غير قليلة ربما لم تدرك بعد أن تغييرًا ما قادم ولا شك.
• • •
أما التمهيد للموضوع بسطور قليلة فناتج عن حرص من جانبى على مواصلة الإمساك بقراء أكثرهم أراهم سئموا قراءة مقالات تناقش أمورًا لعلها كانت كتابة وقراءة من الاختصاص الدقيق لكبار منظرى علوم العلاقات الدولية قبل أن تتسحب فتصير من بين مفردات غذائنا الفكرى اليومى، لا بد من الاعتراف على كل حال أن بعض ما كان من نصيب التنظير ومسئولية الأكاديميين صار موضوعًا للرأى العام، لصانعيه ومستهلكيه معًا.
• • •
أبدأ بملاحظات تعريفية وفى شكل رءوس موضوعات ولكن ضرورية، أولها: أن النظام الدولى الذى نعيش فى ظله أنشأته القوى الدولية المنتصرة فى نهايات الحرب العالمية الثانية بعد ضم كل من فرنسا والصين إلى الدول المؤسسة. بعد سنوات قليلة أخذ النظام الدولى شكل القطبية الثنائية، أمريكا والغرب الرأسمالى فى ناحية وروسيا والشرق الشيوعى فى ناحية. سنوات أخرى ويقرر عدد من دول الجنوب ومعه يوغوسلافيا تشكيل جماعة الحياد الإيجابى تمييزًا لها وحماية من قسوة سياسات الحرب الباردة الناشبة بين أطراف حلفى شمال الأطلسى ووارسو.
• • •
ثانيا: بانهيار الاتحاد السوفييتى ثم انفراطه انهار تلقائيًا النظام الدولى القائم على القطبية الثنائية ليحل محله على الفور نظام قطبية أحادية، وبمعنى أدق نظام هيمنة تمارسها وتقوده الولايات المتحدة. الهيمنة هى شكل وجوهر النظام الدولى القائم والعامل بقواعد وقيم النظام السابق عليه وبرغم التغيرات العديدة فى البيئة السياسية والاقتصادية لعالم تتغير معظم متغيراته.
• • •
ثالثًا: صارت هيمنة أمريكا عرضة لشقوق تنشأ وتتكاثر. الغرب الخاضع للقيادة الأمريكية تسربت لوحدته عناصر ضعف لم تكن موجودة. بعض الضعف نسبى بمعنى أنه ناتج عن صعود الصين وتعافى الاتحاد الروسى من عواقب مرحلة الانفراط السوفييتى ومحاولات فرض الهيمنة الأمريكية على تطور أحواله. بعض الضعف الآخر ناتج عن تكاثر مشكلات البناء الداخلى فى القطب القائد، أى فى الولايات المتحدة، خاصة انحدار مكانة وأداء القيادة السياسية بدليل ملموس وهو الأداء السيئ للقيادة الأمريكية فى حرب «الغرب ضد العراق»، والخروج غير المنظم من أفغانستان.
• • •
رابعًا: جرت محاولات متعددة لوقف تدهور نظام القطب الواحد ومنع تنامى جهود الآخرين تسريع الانهيار لصالح نظام دولى جديد. من هذه المحاولات الجادة: أ- استفزاز روسيا للدخول فى حرب ضد الغرب عن طريق حث أوكرانيا بعد تدبير انقلاب فيها على طلب الانضمام إلى حلف الأطلسى، ثم التوسع فى تطبيق نظام العقوبات الاقتصادية على موسكو.
ب- استفزاز الصين لممارسة أعمال عدائية ضد تايوان واليابان ودول الجزر فى بحر الصين الجنوبى وضد الهند فى حدودها المشتركة مع الصين. من ناحية أخرى راحت واشنطن تكثف إجراءاتها الهادفة إلى تعطيل النمو الاقتصادى للصين عن طريق وضع العراقيل أمام استمرارها شق ممرات اقتصادية صينية جديدة فى أوروبا وإفريقيا وبفرض تعريفة جمركية عالية على وارداتها من الصين.
ج- إسرائيل من جانبها، وربما بتشجيع مدروس من جانب واشنطن، قررت أن الفرصة أكثر من مناسبة لاستئناف جهود تغيير موقعها فى حسابات النظام الدولى نحو موقع متميز وأوسع فى مفاوضات جارية بالفعل حول جغرافية وطبوغرافية وتوازنات النظام الإقليمى تحت التأسيس. رجعنا إلى تصريحات نفتالى بينيت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قبل عقود ثلاثة أو أربعة قال فيها إن إسرائيل تعيش فى انتظار «الفرصة الأعظم»، لتتوسع وتحقيق هدف إسرائيل الكبرى وقارناها بتصريحات نتنياهو الأحدث التى تحدث فيها عن نية إسرائيل بناء «شرق أوسط جديد». كلا التصريحين صدرا فى أجواء نوايا ليست خافية تهدف إلى تغيير فى شكل وجوهر النظام الدولى الذى أفرز إسرائيل الصغرى نحو نظام يمكن أن يفرز إسرائيل الكبرى وإقليمًا خاضعًا لها. من هنا ازددنا شكا وربما قناعة أن أطرافًا دولية عديدة كانت على دراية بنوايا حماس الهجوم على مستوطنات الغلاف، وأن إسرائيل لم تمنعها إحساسًا منها بأن الهجوم يمكن أن يرتب تحقيق الفرصة الأعظم التى انتظرها نفتالى بينيت قبل عقود وشرع فى انتهازها بيبى نتنياهو بتشجيع خارجى، كما يبدو. (رجعنا فى هذا أيضًا لكتاب بوب وودوارد بعنوان «حرب» الصادر هذا الشهر). هذه الفرصة العظمى قد لا تتاح لإسرائيل فى ظل نظام دولى مختلف عن نظام الهيمنة الراهن.
د: تزداد كثافة وأهمية المساعى والأنشطة الجارى تنفيذها فى جهات أخرى من نظام دولى يستعد للرحيل.
1: يلفت النظر حال الشكوى المتزايدة داخل قيادات مؤسسات الأمم المتحدة من عواقب ترهل وضعف النظام الدولى الراهن، يلفت النظر أيضًا الصدامات المتزايدة مع ممثلى هذه المؤسسات بل مع الأمين العام بذاته.
2: لم يعد العمل على صنع نظام دولى جديد سرًا أو تآمرًا يجرى تنفيذه فى الخفاء. لاحظنا ببعض التفاؤل بعض التصريحات المبكرة ثم الأخيرة حول الموضوع من مسئولين فى مجموعة بريكس. بل فى اعتقادى أن دولًا فى الجنوب صارت تطمح إلى عضوية المجموعة لأمل لديها فى فرص تستعيد بفضلها بعض سيادتها وحريتها فى العمل الدولى والتجارة الدولية فى حال أمكن تحرير هذه التجارة من هيمنة الدولار، أحد رموز الهيمنة فى النظام الدولى القائم.
3: من هذه الدول إيران. ولإيران، كما لا شك لاحظنا، مكانة خاصة لدى مختلف الأطراف المنشغلة بقضية تغيير النظام الدولى الراهن، وبخاصة أطراف الجهود المبذولة لصنع نظام دولى جديد متعدد الأقطاب إن أمكن.
• • •
أثارت القضايا المثارة حول استمرار النظام الدولى الحالى واحتمالات تغييره إلى نظام جديد ومنها قضية أو قضايا الدفاع، أثارت تكهنات ونقاشات حول مستقبل قضايا الأمن الجماعى والدفاع بشكل عام. المثال البارز فى هذا الشأن هو المتعلق بما يطلق عليه فى تايوان مفهوم «كل المجتمع» أو شمولية الدفاع بمعنى أن حروب الدفاع القادمة سوف تعتمد مبدأ مشاركة كل المجتمع فى الحرب أسوة بالتحول الحادث فى تايوان والمتبع عادة فى إسرائيل والمنقول عنهما إلى دول الشمال وبخاصة إستونيا وفنلندا ولاتيفيا ولتوانيا والنرويج والسويد استعدادا لمواجهة أفعال عنيفة من جانب القطب الروسى، لم يعد هذا الشكل من حروب الدفاع خاصية فقط للدول الشمولية أو الدكتاتورية بل تمكنت هذه الدول الديمقراطية من ممارسته ولو على الأقل فى مرحلة الحشد والتنظيم لمواجهة عواقب أى تغييرات كبيرة فى النظام الدولى الراهن. ولعله النموذج الذى سوف يطرح نفسه على الدول العربية فى حال استمرت تواجه حملات إسرائيل وحروبها على الطريق لإقامة شرق أوسط جديد بمواصفات صهيو أمريكية.