توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سهرات الخميس

  مصر اليوم -

سهرات الخميس

بقلم - جميل مطر

كانت للخميس مع تجارب حياتنا طقوس اختلفت باختلاف النوع فليس كل ما كان يحق للصبيان يحق بالضرورة للبنات. اختلفت أيضا باختلاف العمر فما استحق لى فى مطلع شبابى لم يكن مسموحا لى على امتداد سنوات المراهقة، وما مارست واحترمت من طقوس ومتع مؤسسة على مصروف مقرر سلفا من أهلى حلت محلها طقوس ومتع أخرى معتمدة على دخل أو دخول مقابل أعمال أو خدمات قمت بها، بمقتضاها توقف مصروف الأهل وبالتالى تحررت الطقوس والمتع ولأول مرة من سلطة الأهل.
• • •
أذكر أيضا أننا، سواء كنا فى سن المراهقة أو الشباب، لم نختبر الطفرة عند الانتقال من مرحلة فى الطقوس والمتع المتاحة إلى أخرى. لا شك أننا مررنا داخل كل مرحلة كبرى بمراحل أصغر فالمراهقة فى حد ذاتها مجموعة مراحل. مثلا علمت من أمى فيما بعد أن صحة أبى تراوحت صعودا وهبوطا مع مفاجآت سنوات مراهقتى. كان قلوقا إن صح التعبير أو على الأقل هذا ما فهمت عندما فاجأتها ذات مرة، وما أزال طالبا بالثانوية، بما انتويت فعله. أشفقت على زوجها من الصدمة. تحدثنا وانتهينا إلى حال ألفة جميلة بقيت معنا حتى رحلت المسكينة عن عالمنا.
• • •
الخميس كان «نص يوم» دراسى. نذهب إلى المدرسة فرحين. فاليوم الدراسى قصير وقد خططنا لما بعده. لم يكن لى أصحاب من المدرسة أو على الأقل لا أّذكرهم إن وجدوا. ربما يكمن السبب فى أن أمى لم تكن ترحب بالغرباء، ومنهم رفاق المدرسة وهؤلاء لم يخضعوا للفحص الذى خضع له أصحابى من الحى. غريب أمر أمى. أمى على امتداد عشرين عاما، مدة إقامتنا، لم تقم علاقة مع أى عائلة خارج بيتنا ذى الشقق الثمانية. ولكنها ومن موقعها فى الشرفة المطلة على شارعين رئيسيين استطاعت أن تجمع معلومات شافية عن كل عائلة سكنت فى دائرة قطرها يزيد عن الكيلومتر الواحد. لم أفلح فى التوصل إلى مصادرها. أنكرت دائما أن يكون لها مصادر غير المراقبة عن بعد. أصدقائى فى الحى تعرفهم بالاسم وبالسير الشخصية والعائلية واجتهادهم فى الدرس والتحصيل وحسن «ملافظهم» أثناء اللعب أو الدردشة. كانت فى هدوء الليل تسمع ما نحكيه فيما بيننا على ناصية الطريق غافلين عن حقيقة أن الصوت يمكن أن يصعد مسموعا حتى شرفات الطابق الثالث.
• • •
مع اقتراب الصيف كنا، أقصد تلاميذ الحى، ننتقل خلال الليل مع مصابيحنا الكهربية وكتبنا والكراريس إلى الشرفة لندرس حتى ساعات متأخرة. أذكر أنها لم تفوت ليلة دون أن تمر على شرفتى لتطمئن. تعرض أن تعد كوبا من الشاى وشطيرة مزودة بما تخزنه لمثل هذه الظروف. أو لمجرد أن تتأكد من أن النعاس لم يغلبنى. أو، وهو الأهم كما تيقنت فيما بعد، أن شاغلا معينا عاد يشغلنى عن تحصيل دروسى. أما الشاغل فهو غرفة نوم مضاءة فى بيت عبر شارعنا تنام فيها وتذاكر دروسها فيها فتاة فى مثل عمرى كانت تفضل المشى ذهابا وإيابا فى الغرفة وفى يدها كراستها. كنا فى الحى نعرف أنها مجتهدة فى مدرستها ومستقيمة فى سلوكها وعلاقاتها. كان لأمى رأى آخر وأظن أنه سبب وجيه لزياراتها الليلية المتكررة. قالت ذات مرة، وكأن الأمر لا يعنيها، «إن (ن) متميزة خلقا وخلقا، وهى مهتمة بك ولكنى أعرف أنك منشغل عن هذه الأمور بدراستك. رغينا كتير، أسيبك ترجع إلى مذاكرتك. بس أنا خايفة عليك تبرد، قوم ذاكر جوه». عادت إلى غرفتها وتركتنى أتعامل مع أمر فى شكل النصيحة من أم رحيمة.
• • •
فى الليلة التالية زارتنى أمى كالمعتاد وفى يدها صينية نحاسية تعرف أننى أفضلها على كل الصوانى المتراصة فى خزائن مطبخنا. قالت وهى تزيح إحدى كراساتى لتضع الشاى والشطائر المعدة خصيصا وعيناها لا تغيبان أطول من اللازم عن شرفة زميلتنا (ن)، «أعلم يا حبيبى أن أمها تسعى للاجتماع معك لحاجة فى نفسها، فهى كما تعلم عاشت محرومة من أن يأتيها صبى. أعلم أنها ترتاح لك لطيبة تربيتك وسمعتنا فى الحى». أزحت بوجهى بعيدا عن حيز إبصارها دليلا مكشوفا عن نيتى ممارسة كذب أبيض. قلت هامسا «لا أظن يا أمى».
***
غريب أمر أمى. كانت تقرأنا. مرات كثيرة كانت تقاطعنى فى وجود أبى حتى لا أسترسل فى خطأ أوشكت أن أقع فيه. مرات كثيرة تدخلت عند أبى ليفاتحنى فى أمر ترددت فى إطلاعهما عليه. كانت تعلم ما فى النفوس وكل ما نخفيه عنها. أخفيت عنها قصة لقائى مع السيدة أم (ن). التقيتها بالصدفة المحضة على محطة الترام فى أول شارع خيرت، ابتسمت لها محييا. جاءت ناحيتى ومدت يدها. قالت بصوت خفيض هل يمكن أن أراك مساء اليوم؟ أقابلك على أول طريق الشيخ ريحان لنتكلم خلال الطريق إلى مقر عملى. فى العاشرة مساء اعتذرت من الأصدقاء عن الذهاب معهم إلى السينما واعدا بأن أنضم لاحقا. قابلتها ومشينا نحو شارع عماد الدين. قالت «أعرف أنك تعرف أين أعمل. لن نناقش هذا الموضوع. كل ما يهمنى فى هذه الدنيا ابنتى. أريد لها النجاح فى دراستها كما تنجحون، وأتمنى أن تساعدها فى بعض المواد التى أعتقد أنها فى حاجة لمن يقرأها معها. أنا أعرفك وأثق بك ولبيتكم فى الشارع مكانة محترمة. فكرت فى مدرس خاص خارجى ولكنى أخشى من مغبة أن يدخل رجل غريب بيتى وأنا غير موجودة. هل تقبل هذا التكليف وأنا مستعدة لدفع أى مكافأة ترى أنك تستحقها؟». قبلت التكليف بدون مقابل طبعا.
• • •
هناك فى هذه الشقة البسيطة عرفت أن للشرف معانى متعددة وله مضامين شتى، كلها كريمة. عرفت أن المظهر لا يعكس بالضرورة واقع الحياة والأفضل تجاهله عند تقييم الناس.
• • •
تعلمت أن أغفر قبل أن أعلم وقبل أن أقرر وقبل أن أحكم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سهرات الخميس سهرات الخميس



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon