توقيت القاهرة المحلي 19:02:10 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العالم عند مفترق طرق

  مصر اليوم -

العالم عند مفترق طرق

بقلم - جميل مطر

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير فى شأن القضية الفلسطينية أثار من جديد، بين ما أثار، مسألة بالغة الأهمية. إذ جاء القرار فى لحظة كثر فيها حديث خبراء العلاقات الدولية وبخاصة المهتم منهم بقضايا الشرق الأوسط عن المكانة المتراجعة للولايات المتحدة الأمريكية. لاحظنا أن فى جانبًا من هذا الحديث اختار المتحدثون تبرير التراجع فى المكانة، أو تفسيره، ضمن حالة أكثر شمولًا وعمقًا فى التفاعلات الجارية فى النظام الدولى، وهى ما صار يعرف بمزاج الانعزال لدى عدد متزايد من الدول الأعضاء فى النظام أو/ وبموجة الدول الواقعة تحت عقوبة العزل والإبعاد عن فعاليات النظام بسبب الخروج أو الزعم بالخروج على القواعد المعمول بها.

• • •

حال الدول فى النظام الدولى كحال الأفراد فى النظام السياسى لكل دولة على حدة. لاحظنا حتى تأكدنا من حقيقة أن نسبة متزايدة من الأفراد صاروا يتعرضون لحال الانعزال أو حال العزل وما يستتبعهما من شعور بالوحدة، وفى أحوال قصوى، بالرغبة أو الميل للانتحار. أهتم بمتابعة الظاهرة، وهى ليست جديدة أو طارئة على كل حال، باحثون ومفكرون فى أنحاء كثيرة وتخصصات عديدة، من بينها علم النفس اهتموا بها. خرج هؤلاء علينا بأفكار مهمة يمكننى تلخيص بعضها فيما يلى:

أولًا: تشهد معظم الدول فى العقود الأخيرة زيادات مطردة فى عدد سكانها. ازدحمت الطرق والمدارس ومواقع العمل ووسائل المواصلات. هذه الزيادات تسببت فى ضغوط شتى على حرية الحركة والتنقل وصعوبات فى خدمات التعليم والصحة وتضييق فى مساحات العمل والرفاهة، تسببت بالتالى فى ضيق بل فى أزمات نفسية حادة. كتب أحد الفلاسفة فى وصف هذه الحالة قائلًا: إنها أشبه ما تكون بحال «الانسحاب العظيم» للفرد العادى من المجتمع الذى يعيش فيه.

ثانيًا: شملت الزيادة قطاعًا مهمًا من السكان، وهم كبار السن. هؤلاء بطبيعتهم انعزاليون بالمزاج أو بالفرض المجتمعى. هؤلاء يضجون من الضجة والصخب المحيط بهم من كل مكان فيختارون، أو هم يجبرون على اختيار، الانعزال. هنا يتولد عند نسبة غير قليلة شعور بالوحدة ناتج عن حياة العزلة أو الانعزال، أى عن انفرادية التفاعل إن صح التعبير. الانفرادية تستبعد بحكم التعريف المشاركة وتعتمد درجة أعلى من الاستقلالية أو وهو الأهم وربما الأخطر درجة عالية من «النفسنة» ومن حب الذات أو تقديسها وربما درجة لا بأس بها من شعور بالعظمة المبالغ فيها أو باليأس الذى عادة ما يصيب المحبوس فى سجن انفرادى.

ثالثًا: تفاقمت مشكلة الانفرادية وعلامات وتصرفات ناتجة عن الشعور بالوحدة بين سكان دول تعرضت مؤخرًا لأوبئة، مثل الكورونا أو لكوارث طبيعية. لاحظنا هذه الحالة فى مصر، حيث وقع ميل واسع من جانب المواطنين لتجنب المشاركة فى المناسبات الاجتماعية بل وفى حالات كثيرة امتنع كثيرون عن الذهاب لأعمالهم وزادت نسبة من فضلوا، إن سمحت ظروف العمل، أداء مهامهم من منازلهم. لوحظ فى الوقت نفسه تغيير فى السلوكيات والعلاقات نتيجة الشعور المتزايد بالوحدة وبغيرها من سلبيات الانفرادية فى السلوك والتفاعلات مع الغير وبخاصة مع السلطة وممثليها.

رابعًا: لا جدال أنه فى غياب التعددية السياسية والأحزاب والنقابات وأجهزة التواصل الإعلامى وحريات التعبير والتنقل يزداد ميل الإنسان للتقوقع والانفراد فى التصرف، وبالتالى يتفاقم شعوره بالوحدة ومعه الرغبة فى الاختفاء أو عدم المشاركة وفى النهاية يغلب اليأس والإحباط فالانزواء. هذا فى حد ذاته تهديد مستتر للاستقرار، فالإنسان المشارك فضلا عن أنه أداة بقاء ورقى الدولة، هو أيضا الهدف الذى من أجله قامت وتبقى.

• • •

صدق الأولون من علماء السياسة عندما رفضوا الفصل المطلق بين الداخل والخارج فى دراسة علوم السياسة. توقفت طويلًا أمام العناصر التى تتسبب فى صنع الإنسان، ولا أقول المواطن، الذى يختار الانعزال أو يرضى بالعزلة المفروضة عليه. رحت أقارنها بالعناصر التى تتسبب فى صنع الدولة التى تختار الانعزال أو تلك التى ترضى بعزلة تفرض عليها. رحت أراجع وأتذكر وأقارن.

سويسرا مثلًا اختارت الانعزال وأسمته حيادًا. فى قارة تشهد من عشرات العقود حروبًا لا تتوقف، أهلكت فى طريقها امبراطوريات ودمرت مئات المدن، وأطلقت العنان لهجرات وهجرات مضادة.

• • •

أحدهم سألنى إن كنت أعتبر الولايات المتحدة فى وضعها الراهن ومع استمرار حرب إسرائيل وأمريكا ضد الشعب الفلسطينى وبخاصة حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل بخاصة ضد شعب غزة، أعتبرها دولة فى حال انعزال. واستطرد فى السؤال، أو أضاف سؤالًا إلى سؤال، قال فإن اعتبرتها فى حال عزل أو انعزال فهل لاحظت على سلوكها تغييرًا، وبدقة أشد ألست شاهدًا مثلى على دولة عظمى تتصرف تصرفات دولة تشعر بالوحدة، وهى عضو فى نظام دولى غاص بالأمم بل هى وبالاسم ما تزال تحمل صفة القائد أو المهيمن فى هذه الجماعة؟ ألم تنتبه إليها وبعض تصرفاتها تعبر عن حالة إحباط؟ ألا تراها كما أراها دولة عظمى محبطة؟.

• • •

يردد خبراء السياسة الدولية ما يعتقدون أنه صار من قواعد الفهم للسلوك السياسى للدول، كما فى السلوك السياسى للأفراد داخل كل دولة، أن أمورا ثلاثة تتسبب واحدة منها على الأقل فى إثارة الرغبة فى الانعزال عن الجماعة، وهى الحالة التى يصاحبها الشعور بالوحدة وتصرفات تعكس حالة مزيج من المشاعر والطموحات المحبطة. أما هذه القواعد فمنها: (1) خروج القوة الأعظم المهيمنة على قواعد النظام الدولى، وأكثرها من صنع هذه الدولة القائد نفسها، وتمرد دول متزايدة العدد. (2) المبالغة فى ممارسة الهيمنة تحت عنوان قيادة النظام الدولى. (3) الشكوك المتزايدة لدى عدد كبير من الدول فى نجاعة النظام الدولى القائم وبخاصة قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين. لا يفوتنى فى هذا الصدد أن ألفت النظر إلى مدى انطباق قواعد الفهم هذه على سلوك الدول الأعضاء فى النظام الإقليمى كما الدولى.

• • •

كثيرة هى النماذج فى التاريخ المعاصر التى تستحق العودة لدراسة نهج سياساتها الخارجية، والداخلية، خلال انعزالها أو عزلها. كوبا كانت ولا تزال نموذجًا لحال دولة صغيرة فرض عليها العزل. الصين الشعبية مارست هذا الدور لعقود قبل أن تقرر الولايات المتحدة حاجتها لوجودها قطبًا مشاركًا. كوريا الشمالية نموذج فريد لرد فعل دولة صغيرة تعرضت للعزل من جانب القوة الأعظم فتحولت إلى قوة حشد شامل غير مسبوق وتهديد كامن لأمن النظام الدولى. إسرائيل نموذج آخر فريد. عاشت لفترة غير قصيرة تحت قرار إقليمى بالعزل تجاوزته بشن حرب شبه دائمة على الإقليم الذى فرض عليها العزل وبالاندماج العضوى فى النظام السياسى للدولة الأعظم. تايوان تقف برد فعلها أيضا فريدة. فضلت أن تستمر أداة فى صراع القمة الدولية واثقة من أن مصير عزلتها مقترن بظروف تفرض عليها عودتها جزءًا من الوطن الأم. سمعت صديقًا فى الصين يصف حالة تايوان، فورموزا سابقًا، بحالة دولة تعيش على فائض الزمن. عشت دهرًا أحاول فهم ما قصد.

لكل من هذه الدول- النماذج سيرة حياة. كل منها اختط لنفسه سياسة خارجية تناسب ظروف العزل أو الانعزال وتتلاءم مع هدف التخلص من هذا الوضع أو الاستفادة منه. كل منها عانى من ضغط إحباط أو خيبة أمل وانقسامات داخلية. كل منها عاش مراحل ارتباك وتردد وقلة ثقة فى الآخر عدوًا كان أم صديقًا.

• • •

أمامنا، وبالتحديد فى مقدم النظام الدولى الذى نعيش فى جنباته، دولة عظمى ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولى هى صانعته وقائده. جلب أيضًا بالتبعية داخل قطاع مهم من نخبتها رغبة متنامية فى الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه.

• • •

الأمر جد خطير وكذلك الوضع والظرف، فالدولة القائد، بقوتها الجبارة وأثناء لحظات ارتباك وسيولة ومعايير مزدوجة وشباب منفعل بالغضب أو عدم الرضا، تشارك فى دعم حرب إبادة كبيرة تقرر شنها ضد شعب فلسطينى أعزل، تشارك أيضًا فى دعم حروب استعمار صغيرة فى دول عربية وإفريقية متزايدة العدد. الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولى صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هى الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل صارت، فى اعتقاد شعوب العالم، مصدرًا للألم.  

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العالم عند مفترق طرق العالم عند مفترق طرق



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 18:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية
  مصر اليوم - نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon