بقلم - جميل مطر
يشغل بالى، وبال كثيرين على ما أتصور وأتمنى، حال عالمنا العربى. كان الرأى قد استقر لفترة طويلة على أن دول العالم العربى قررت منذ مرحلة مبكرة أن يجمعها نظام إقليمى خاص بها يحمى استقلالها الوليد من الذوبان فى نظام أوسع ويوفر لها فرصة توليد طموحات قومية لن يوفرها انضمامها لتجمعات تتكون على أسس أخرى.
• • •
هنا يجب أن يقال إن النظام العربى ليس فى أفضل حال. المثير أننا صرنا نصف حال النظام الدولى وأنظمة إقليمية معينة بهذا الوصف غير مترددين، فالسلوك الدولى منحدر الكفاءة بصفة عامة والمستقبل يبدو للكثيرين غائما ولا يحمل فى طياته بشائر أمل أو تفاؤل. واقع الأمر يشير إلى أن تغيرات هامة حدثت وتحدث وأن هذه التغيرات كافية فى حد ذاتها لتبرير حال انحدار النظام الدولى كما الحال فى النظام الإقليمى العربى والنظام الإقليمى الإفريقى والنظام الإقليمى الأوروبى.
• • •
لاحظنا مثلا أن النظام الدولى، وهو بالفعل يبدو فى حال انحدار، تعرض فى العقود الأخيرة لخلل شديد فى نظام توازن القوى الحاكمة فى مسيرته. بدأ الخلل ثم الانحدار عندما انتقل النظام من وضع ثنائية الأقطاب إلى وضع أحادية القطب والذى اتخذ على الفور طباع الهيمنة وتبنى سلوكياتها المدمرة غالبا للقواعد المؤسسة للنظام الدولى.
ما من شك أن سلوكيات الهيمنة تقف وراء الخلل الراهن فى نظام توازنات القوة والنفوذ فى النظام الإقليمى الأوروبى وفى النظام الإقليمى الإفريقى والنظام الإقليمى العربى. كان نمط التحالفات أول ما تأثر بالتغير فى سلوك قطب النظام الدولى، فالأطلسى انتقل من دور الحلف المحافظ على التوازن فى مرحلة القطبية الثنائية إلى دور الذراع الكبرى للهيمنة، أى إلى دور الحائل دون صعود قوى أخرى ودور الحامى للمصالح الاحتكارية الغربية فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربى. تغيرات دفعت فى حد ذاتها إلى سباقات وخلافات داخل عالم الغرب وإلى ما هو أخطر وأهم وهو إثارة شكوك حول حق الغرب فى فرض منظومة قيمه وثقافته على عالم يتغير بسرعة.
• • •
نعود إلى حال انحدار النظام الإقليمى العربى. فللانحدار فى الإقليم العربى أسبابه الخاصة إلى جانب انفتاحه على حماقات نظام الهيمنة.
أولا: كان من المنطقى أن يفرز التصعيد الهائل فى أسعار النفط تصعيدا آخر فى مكانة الدول النفطية فى النظام العربى على حساب مكانة بعض الدول الفاعلة قوميا والمؤسسة للنظام.
ثانيا: تسببت الفجوات المادية فى خلق أو اختلاق أسباب شتى لنشوب الخلافات على عدة مستويات داخل النظام. حدث هذا فى مرحلة كان النظام الإقليمى يستعد بجهود حثيثة لسد هذه الفجوات. كان السعى لتحقيق تكامل اقتصادى وتنموى أحد هذه الجهود التى لم يقدر لها أن تكمل مسيرتها أو تكتمل فى صيغة خطة لتكامل إقليمى على أسس علمية وقومية طموحة.
ثالثا: أخطأت قيادات سياسية عربية حين بنت سياساتها العربية على افتراض أن الزعامة حق موروث بحكم التاريخ أو حق مشروع بحكم الكثرة السكانية أو حق مدروس بحكم رسوخ برامج التوعية القومية أو بحكم التضحيات التى فرضتها فرص الهيمنة الإقليمية. أخطأت لسوء تقدير مدى ما حقق النظام الإقليمى العربى من تقدم فى التكوين وبخاصة فى المأسسة. أخطأت أيضا فى حساب قدرة النظام القبلى المتين والمتمكن، كحال معظم النظم القبلية فى الشرق الأوسط، على الانتقال السلس إلى مواقع هامة فى السياسة الدولية والإقليمية.
رابعا: لم تسمح هيمنة الخلافات بين الحكومات العربية بإقامة نظام ثابت لتبادل المشورة فى الشئون الدولية. لم تكن الشفافية عرفا معتبرا فى اجتماعات الجامعة العربية التى هى أداة التنسيق الأهم حسب ميثاقها. يبدو لى هاما للغاية عقد اجتماعات محدودة العدد لمناقشة قضية أعرف أنها حيوية لاتصالها بالجنون الإسرائيلى المدمر فى طريقه عمائر غزة وفلسطين عامة وبنيتها التحتية. مثل هذه الاجتماعات لو عقدت فى سنوات السبعينيات ومعظم الثمانينيات من القرن الماضى لربما عرف أكثر العرب بما يدبره أو يشغل بال بعض العرب فتفادى الجميع ما آل إليه حال كل العرب.
خامسا: أيا كانت المغريات والضغوط والابتزاز والمكافآت ففى اعتقادى أن التطبيع السابق لأوانه مع إسرائيل حقق لها ما لم يحققه عمل عسكرى على أى مستوى. نعرف الآن أنه كان، مع أمور أخرى، وراء انحدار مكانة مصر فى النظام الإقليمى العربى والإفريقى والدولى على حد سواء. أعرف أن دوافع الانضمام لهذا النظام الإقليمى الوليد مغرية ليس أقلها أهمية العنصر المادى كالسلاح والأمن المتبادل ضد قوى إقليمية أو عربية أخرى وتبادل الاستخبارات الحقيقية والمزيفة لخدمة أهداف أخرى كبث الوقيعة بين الدول العربية ..إلخ. أستطيع، رغم محاذير كثيرة، أن أتنبأ بأن نظاما إقليميا فى الشرق الأوسط تقوده إسرائيل منفردة أو بتواطؤ أمريكى أو عربى لن يكتب له النجاح، ودليلى تسطره الآن حرب غزة وتداعياتها.
سادسا: توالى انفراط دول عربية أكثرها حديث الاستقلال، وأخشى أن يتفاقم الأمر، فتستحق هذه الفترة أن أطلق عليها بامتياز عصر الانفراطات العظمى فى التاريخ العربى المعاصر. من الصومال والسودان واليمن جنوبا إلى سوريا والعراق وليبيا شمالا تنتشر بإصرار وتحد عمليات تفكيك وفرط دول عربية كان الظن أو الأمل أنها استقرت حدودا وشعوبا وقيادات متواصلة. الوضع حقا مخيف ودافع للقلق فالنظام الإقليمى متدهور وهو المكلف نظريا بالسعى لتوفير الأمان لهذه الدول فى محنتها المتعددة المصادر والأسباب. الخوف والقلق لا يقتصران على ضعف الأمل فى التدخل لحماية هذه الدول ومساعدتها لاستعادة وحدتها بل يمتدان إلى دول عربية أخرى تتعرض هذه الأيام لهجمات وعمليات ابتزاز واختراق خارجى وأشكال عديدة لتمرد داخلى، دول مهددة بالتفكيك.
• • •
أسمع عن جهود تبذل لبتر المغرب العربى وقطع سبل اتصاله بالمشرق، قلب النظام العربى. أسمع أيضا وأرى بعين المراقب الواعى جهودا مستمرة تبذل لتوسيع الفجوة بين إيران ودول الخليج ودول عربية أخرى. فى الوقت نفسه وفى ظل كثير من السخرية تتواصل المساعى الأمريكية لتعيين إسرائيل حامية لكل هذه الدول، إسرائيل الدولة التى عجزت على امتداد حوالى تسعة شهور عن وقف تمرد حركة مقاومة فلسطينية فى جزء من دولة فلسطين المحتلة. أسمع أيضا عن توقف تنفيذ مشاريع التكامل الاقتصادى بين الدول العربية.
• • •
لن أكتئب فمعلوماتى تفيد أن هناك فى موقع هام فى العالم العربى من يبحث عن معنى جديد لمفهوم العروبة، تبنى هذا المعنى يفيد فى التمهيد لصحوة عربية جديدة.