توقيت القاهرة المحلي 16:08:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صورة فتاة في الرابعة عشرة

  مصر اليوم -

صورة فتاة في الرابعة عشرة

بقلم - جميل مطر

إحداهن وقد تجاوزت السبعين أخرجت حقيبة قديمة وفتحتها لتتسلى بمحتوياتها. علقت على ما فعلت بقولها إنها مثل كل من هو فى عمرها لم يعد يسليها مشاهدة التلفزيون وبالتأكيد لن يشبعها إن هى فعلت. أضافت قائلة «من التلفزيون ومعه تعلمنا الكثير. أرانا كبرنا ونضجنا، وأراه كبر ولم ينضج. تغير كما تغيرنا. كنا فى بيوتنا ونحن صغار نستمع للكبار ونتعلم منهم، أما الآن فصغارنا يتعلمون من بعضهم البعض، بل وكثيرا الذى نتعلمه نحن كبار السن منهم».
أخرجت من الحقيبة صورا. تسحبها واحدة بعد الأخرى، كل منها تروى لها حكاية أو أكثر. استعادت بها سنوات من الماضى فى ساعة أو أطول. لم تمل، فمن الصور ما جلب حزنا خفيفا ومنها ما رسم على شفتيها بسمة جميلة، وكثيرة هى الصور التى خلفت لوعة وشوقا أو تركت علامات دهشة وانبهار. لاحظت أن غالبية الصور جنس النساء مع أطفالهن أو فى جماعات. قليلة كانت الصور لسيدات مع أزواجهن. تذكرت أنها كانت صغيرة عندما جلست مع والدها يتصفحان ألبوما للصور تصدرت صفحاته صورة لسيدة متينة القوام قوية الملامح نفاذة النظرة تقف ممسكة ببندقية قديمة الطراز. سألت أبيها عنها فأجاب فى فخر وبصوت يفرض على الصغيرة الاحترام ويضيف لصاحبة الصورة هيبة وربما رهبة. خلا الصوت من مشاعر الحب وهو يقول بالهمس «إنها صورة أمى». عادت صاحبتنا تركز على الصور باحثة فى الحقيبة عن هذه الصورة حتى وجدتها. أمسكت بها وراحت تتأمل فى الوجه الذى أثار فيها وهى صغيرة أحاسيس شتى. تساءلت بينها وبين نفسها إن كانت صاحبة الصورة فى حقيقتها وعلى طبيعتها مؤهلة للحب أو حتى قادرة على احتضان صغارها. انتهت من هذه الصورة فألقت بها فى الحقيبة. عادت أصابعها تقلب الصور وتلتقط ما لمسته بالصدفة.
●●●
خرجت الأصابع بمجموعة صور لم تحظ بالاهتمام إلا واحدة. كانت لفتاة لا يزيد عمرها على الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، أو هكذا أفصح قوامها ودلت عليه ابتسامتها المترددة. الشىء الذى يلفت النظر إلى الصورة ويكسبها اهتماما فوريا هو هذا الجمال الهادئ والوجه الصبوح. صاحبتنا الباحثة فى أوراق وصور الماضى عن مصدر للتسلية وقضاء الوقت توقفت أمام الصورة طويلا تحاول أن تجد فى ذاكرتها ما ينبئ عن هويتها. فشلت محاولاتها وتأكدت أن الصورة انضمت إلى محتويات الحقيبة فى مرحلة تالية للمرحلة التى كانت تستعين فيها بالوالد أو بغيره للتعرف على هويات أصحاب الصور. استبد بها فضولها فالوجه الذى أطل عليها من الصور أبى ألا أن يسيطر على اهتمامها ووقتها بجمال مكوناته وقوة جاذبيتها. شعرت أن صاحبة هذا الوجه لا بد وأن تمت لها بصلة قرابة أو جيرة. هناك فى هذا الوجه ما ينادى متوسلا الاعتراف به طرفا أصيلا فى سردياتنا العائلية. يكاد الوجه ينطق مطالبا كل فرد فى هذه العائلة التى امتدت شرقا وغربا بأن يأتى بمرآته وينظر فيها ليجد تفصيلا أو آخرا منقولا عن نظيره فى هذه الصورة.
صاحبتنا لم تنتظر طويلا. استيقظنا ذات صباح لنجد الصورة على شاشات هواتفنا المحمولة وتحتها رسالة تحمل الأمل أن نساعد فى حل هذا اللغز والإجابة عن السؤال «لمن تكون هذه الصورة؟». هكذا صار انشغال فرد انشغالا عائليا. بعضنا نحى جانبا مشاغله ليهتم وبخاصة عندما ظهر من يجد فى العينين أو الشفتين أو فى البسمة المترددة أو فى الشعر حالك السواد شبها بنفسه أو بمن أنجب. تشاورنا ولم يطل تشاورنا. توصلنا فى نهاية التشاور وتبادل المعلومات والذكريات إلى هوية صاحبة الصورة. عند هذه اللحظة تبارى أفراد العائلة فى إثراء الاهتمام فألقوا بذكرياتهم.
●●●
قالت واحدة، كيف لا أذكرها وهى نفسها ولكن بعد مرور سنوات كثيرة على يوم التقاط هذه الصورة كانت تعقد جلسات موسمية لشقيقاتها وحفيدات العائلة الممتدة وجارات لها يقمن أثناءها بتفصيل ملابسنا، نحن الأطفال، لمناسبات العيد والانتقال للمصيف وللأعراس. كانت هذه الجلسات فى حد ذاتها مقدمات بهيجة لأيام نقضيها عندها فى مرح وفرح وأطايب الأكلات. قالت أخرى، أذكرها مصدرا دائما للقرارات التى تتطلب حكمة واتزان وتوازن. كنت حاضرة بزعم انشغالى بدروسى أتنصت على اجتماع فى الغرفة المجاورة انتهى بعقد الصلح ومنع حادث طلاق فى العائلة وعادت الزغاريد تملأ أجواء البيت الكبير. قالت ثالثة. نعم أذكر جمالها وهى ترفل فى البيت ولا غريب بيننا فى قميص نوم من قماش «رمش العين» أو آخر من الساتان أو الحرير الطبيعى. كانت إذا خرجت، ونحن معها، لزيارة جدتنا الكبرى، ارتدت السواد والبالطو الأسود واحتفظت بشعرها طليقا حرا.
رابعة بلغت من العمر أخيرا ما يناهز الثمانين قالت نقلا عن أمها، إنها سمعت منها أن أباها وكان تاجرا كبيرا حرص دائما على أن تكون هذه الابنة صاحبة الصورة فى استقباله كل ليلة عند عودته من وكالته. كانت تراجعه عند وصوله إلى حارتهم لتتأكد من أنه أغلق باب الحارة قبل دخوله إلى البيت وأحسن ربط حماره، ولتتسلم منه كيس العملة الذهبية حصيلة أعماله التجارية عن اليوم. كانت هى المكلفة بأن تحصى الجنيهات الذهبية بينما تكرر أمها لأبيها نصيحتها أن يتعامل مع زبائنه وشركائه بالعملة الورقية لأنها حسب رأيها أثمن و«أقيم» من الذهب.
قالت حفيدة إنها سمعت منها أكثر من مرة قصة عرسها وهى فى الوقت نفسه قصة عرس ابنة عمها والعريسان شقيقان. تزينت حارة الوراق بأحلى زينة لأيام ثلاثة، وتبادلت العزف خلالها فرق موسيقية عدة ورقصت زينة عوالم محمد على حتى الفجر وانهالت الهدايا من كبار التجار ورجال الحكومة. كانت فى الرابعة عشرة من عمرها وأنجبت ابنة وهى فى الخامسة عشرة. وكانت فى الثانية والثلاثين عندما عقدت قران ابنتها الطالبة بالمدرسة السنية على أستاذ الجامعة العائد لتوه من إنجلترا والأصغر منها، أقصد من حماته، بثلاثة أعوام. تذكر الحفيدة التى سمعت القصة من جدتها أنها لم تذق منذ رحيلها طعاما فى جودة ما كانت تطبخ. بحنين واضح راحت تضرب المثل بصحن محشى الباذنجان الأبيض المقلى بعد إنضاجه فى السمن البلدى وبالبط المحشو بالمكسرات والزبيب وبالأرز «الملدن» ذى الرائحة الفريدة. كانت تطبخ على صوت الموسيقى الصادر من الراديو.
تقول البنات وقد صرن جدات إن المطبخ فى أيامها كان مكانا للفرح والزهو والعمل الجماعى. كلهن يذكرن المناسبات التى كن يسهرن عندها ومعها حتى قرب الفجر يشاركن فى تحويل الزبد الجاموسى إلى سمن بلدى وتعبئتها فى صفائح تمهيدا لتخزينها فى صندرة البيت. كانت أجولة الأرز تأتى الجارة من أرياف شمال الدلتا تتقاسمانها وتشرفان على تنقيته من الحصى وتخزينه إلى جانب السمنة والعسل والمربات والمخللات وغيرها من الضرورات.
●●●
نعم. الفتاة الجميلة فى الصورة صارت أمى. عاشت تدعو لى بعد كل صلاة أن يرزقنى بالزوجة المطيعة والذرية الصالحة واستجاب الرب. رحلت قبل أن ترى أيا منهم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صورة فتاة في الرابعة عشرة صورة فتاة في الرابعة عشرة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon