بقلم - جميل مطر
أستعد الليلة لقضاء أمسية مع أصدقاء أعزاء. اثنان منهما عائدان لتوهما من دمشق عاصمة عواصم بلاد الشام. أحمل معى إلى الأمسية صورًا انطبعت فى مخيلتى على امتداد الأيام الأخيرة عن حال العالم وبخاصة أحوال الشرق الأوسط برمته وبضمنه العرب على اختلاف مللهم وضمائرهم وعن دول الغرب وعميدتها الولايات المتحدة المقبلة بشغف على عهد يمتزج فيه دونالد ترامب الأسطورة بإيلون ماسك الأسطورة الأخرى. أذهب الى الأمسية ومعى ما اجتمع عندى من صور آملًا أن أعود بخلاصات حوار صريح ومثمر.
• • •
الشام، وهنا أقصد دمشق، جميلة. تنقصها خدمات ولكن تعرف كيف تحافظ على سمعتها ورصانتها وروائحها وحيائها. تبقى عندى صورتها، وهى حانية وكريمة ومضيافة. تدفق الزائرون والوافدون والنازحون والعائدون ودمشق ترحب ولا تسأل كثيرًا. جاءتها وفود خليجية وعربية أخرى وجاءتها أوكرانيا ولم تسأل ولكن سأل المراقبون والمحللون وكل من يخشى أن تتحول سمعة سوريا كساحة يتصارع عليها الغرباء إلى سمعة ساحة يتسابق نحوها الغرباء لأمر فى نفس كل يعقوب بينهم. وبالمناسبة هل ينوى الروس الرحيل من حميميم وطرطوس بدون ضجة، سؤال إجابته غائبة حتى الآن. هل تعترف أو متى تعترف إيران بهزيمتها فى سوريا هزيمة قاسية، وقد لا تعترف. أيضا الإجابة غائبة.
• • •
ظهرنا فى إحدى الصور ونحن نردد مع المرددين أنه لا استقرار فى سوريا فى الأجل القصير حتى يستقر الحكام الجدد، ولا استقرار فيها فى الأجل المتوسط حتى تتحقق العدالة الانتقالية ولا استقرار فى سوريا فى أى أجل حتى تتحرر جميع أراضيها، ولا استقرار فى الشرق الأوسط حتى يحل الاستقرار فى سوريا.
من الصور صورة تشهد على تراجع مكانة العرب السياسية فى هذا الإقليم، إقليم الشرق الأوسط. للكثيرين عذرهم فالإقليم تغيرت ملامحه ولا أقول معالمه. الحدود تداخلت. الرايات تتغير كما يغير الإنسان قميصه. تغير علم سوريا. تغيرت أيضًا سير حياة قادة. ولكن بقى التوسع فى أراضى الغير عقيدة قائمة فى الإقليم والآن تتجدد. تركيا عادت تتوسع قريبًا من حدودها وبعيدًا عنها حتى راحت تتوسع نحو كل حدود الإقليم المعروفة وغير المعروفة. تتوسع فى ليبيا وإفريقيا بعد أن توسعت فى سوريا وجزر فى بحر إيجه. تركيا تتوسع على حساب إيران وروسيا وعرب وأكراد. بدورها إسرائيل لا تخيب ظن الكارهين ولا العاشقين، فالتوسع فى عقيدتها نهج وهدف وساحته أراضى العرب.
• • •
صورة أخرى حديثة للغاية تشى بمستقبل للشرق الأوسط تعود فيه القبلية والعشائرية هوية بل، وفى حالة أو أكثر، سيادة أو شريكة فى السيادة. صورة أخرى توقفت عندها طويلًا، لأنها أوحت لى بمستقبل تعود فيه داعش وتفرعاتها وتنشط القاعدة. كلاهما وغيرهما أثبتوا كفاءة عالية فى تدريب وتأهيل أعضاء ليصبحوا زعماء سياسيين يصلحون لأداء أدوار كبيرة فى ظروف دولية وإقليمية صعبة.
• • •
أبحث مع الباحثين عما يجعل بعض الحكومات تلجأ وبكثرة لتدريب ميليشيات بعد تسليحها على احتلال مساحة من السلطة والنفوذ والموارد لخدمة مصالحها فى داخل بلادها أو فى الإقليم. نعرف أنه فى أكثر من مكان انقلب السحر على الساحر حين قررت الميليشيات أنها تستحق ما هو أكبر أو أوسع من المساحات التى تحتلها. فاجنر فى روسيا قررت التمرد، وكذلك قوات الدعم السريع فى السودان، وفى الحالتين كانت تكلفة التجربة باهظة. المهم أننا صرنا أمام ظاهرة كدنا فى الإقليم العربى ننفرد بها وهى العدد المتزايد بسرعة مخيفة من دول فاشلة أو ساقطة ودول مهددة بالفشل أو السقوط.
• • •
يرتبط بهذه الظاهرة، وأقصد الدول الساقطة، أو يقترب منها تطور له دلالة مهمة. يتحدثون عن أن هوية العروبة تتعرض منذ سنوات لحالات انحسار ملحوظ نتيجة قصف إعلامى وسياسى همجى. يتحدثون ويذهبون إلى حد اتهام قوى خارجية معينة بالترتيب المتعمد لتحقيق هذا الانحدار. البديل المنطقى والمتوقع لن يخرج عن انتعاش هويات أضيق مجالًا كالمشاعر الجهوية والمحلية والقبلية وفى أحسن الأحوال الهويات الطائفية والمذهبية وفى أكثرها تفضيلًا الهويات القطرية. هذا الانحدار يعزى إليه الانحسار فى خطط وبرامج التكامل الاقتصادى، وبنفس الأهمية والخطورة انحسار العمل العربى الجماعى فى مجالات الأمن القومى. لا يمكن، ولا يجوز، إنكار حقيقة أن هذا الانحدار لعب دورًا فى أزمة قطاع غزة وما لحق بها فى لبنان واليمن، وغير مستبعد أن يكون وراء التوسع الإسرائيلى الأخير فى الجولان السورى ووراء ما يخطط له ضد العراق والأردن.
• • •
الصورة التالية التى أحملها معى لأمسيتى مع العائدين من سوريا لا تقل إثارة. إنها صورة للتطورات الأخيرة والمتوقعة فى علاقات الآخرين وبخاصة الكبار. تتصدر الصورة شخصيتان مرموقتان إلى درجة سمحت لى بأن أطلق عليها صورة العصر، عصر يشهد اجتماع الأسطورتين ترامب وماسك على قيادة القطب الأعظم فى عالم الكبار. الأمر لا يخلو من طرافة محفوفة بالرعب إزاء ما يمكن أن يقدم عليه هذان الرجلين الفريدان فى فهمهما للسياسة والاقتصاد وللبشر خصوصًا. يكفينى وغيرى آخر ما صرح به الرئيس المنتخب ترامب عن نواياه تجاه دولة كندا إن استمرت متهاونة فى الرقابة على حدودها وتجاه إقليم جرينلاند الواقع تحت سيادة الدنمارك وتهديده دولة بنما باستعادة السيادة الأمريكية على الشركة المالكة للقناة. تخيلت للحظة صدمة المصريين، وهم يستعيدون كابوس حرب السويس دفاعا عن ملكية قناتهم التى انتزعوها وبحق من «الشركة الدولية». بمعنى آخر يمكن فى أى لحظة فى هذا العهد الإمبريالى الجديد، وباستخدام نفس الأساليب عودة الغرباء إلى احتلال أى أراضٍ والاستيلاء على أى ممتلكات للغير بحجة أنها كانت لها فى العصر الاستعمارى الأول.
تخيلت أيضًا صدمة الفلسطينيين واللبنانيين، وهم يحلمون بيوم يستعيدون فيه أراضى استولت عليها إسرائيل عنوة أو خداعًا، وصدمة الأردنيين الخاضعين لإرهاب دولة تصرح على لسان وزير أو آخر فى حكومتها بأن الأردن هى الوطن البديل لشعب فلسطين.
• • •
الصورة الغالبة بين صور مستقبل الأيام هى صورة ترامب الرئيس المنتخب يحلم بأمريكا وقد صارت فى عهده القطب «السوبر». لا اعتبار كبيرًا فى الصورة لروسيا. هدفه الأهم فى سياسته الخارجية أن ينقل علاقات أمريكا بالصين من حيز المنافسة إلى حيز الحرب الباردة، ولا مانع فى سبيل تحقيق هذا الهدف من أن يسمح للصين أن تقود حلفًا من الدول الآسيوية والإفريقية المترددة.
لا أهمية كبرى أو تهديد يذكر لمجموعة البريكس فى حساباته وحسابات ماسك، فالبريكس تتصرف إلى يومنا هذا كحركة احتجاج وليس كمجموعة منافسة لمجموعة دول الغرب التى مارست الاستعمار القديم وعادت تمارس استعمارًا مبتكرًا تشارك فى توجيهه شركات بالغة النفوذ والقوة.
• • •
الصورة التى لم تحظَ باهتمام أحد لم تكن فى الحقيقة صورة كبقية الصور. كانت رسمًا كاريكاتوريًا لشخص فى هيئة الشخصية المعروفة بالعم سام يحض أتباعًا له وحلفاء ويدفعهم دفعًا فرادى أو مجتمعين ليمشوا على الطريق المؤدية إلى الشام. هناك فى هذه العاصمة العربية الفريدة تاريخيًا فى عقيدتها وعصبيتها وانفعالاتها سيكون فى استقبالهم مرحبين قادة ميليشيا وعدوا السوريين وغيرهم بإقامة جمهورية مدنية وديمقراطية. وعدوا بأن يكونوا هم أنفسهم الحل المستحيل.